الذكر الحكيم

أسباب هجر تدبُّر القرآن

د. محمود بن أحمد الدوسري

لا شك أنَّ هجر التَّدبُّر له أسباب كثيرة، ومتنوِّعة، تختلف من هاجِرٍ لآخر، ولربَّما اجتمع أكثر من سبب في شخصٍ واحد، وسيكون الحديث عن أهمِّ هذه الأسباب كما يلي:

فمن أعظم أسباب هجر التدبر:

أولًا: الإصرار على الذُّنوب

إصرار العبد على الذَّنب، وارتكابه إيَّاه من أعظم الأسباب التي تحول دون تدبُّر القرآن، وفَهْمِ معانيه، فينبغي لمن أراد تدبُّرَ القرآن أن يبتعد عن الذُّنوب، والمعاصي، ولا سيَّما التي لها اتِّصال مباشر بأدوات، ووسائل التَّدبُّر، وهي: القلب، والسَّمع، واللِّسان، والبصر، فانهماك هذه الجوارح في الحرام يُعطِّلها عن تدبُّر القرآن، والانتفاع به، تأمَّل ماذا قال الكفار: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5].

فالإصرار على الذُّنوب من أعظم ما يصدُّ عن اتِّعاظ القلب، وانشراح الصدر لمواعظ القرآن، وحِكَمه، وأحكامه، والله تعالى يقول: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146].

ثانيًا: انشغال القلب

القلب المشغول عن القرآن بغيره لا يتأثَّر به؛ لتشعُّبه في أودية الدُّنيا، وغفلته عن تدبُّر كتاب الله، وكيف يحصل له ذلك، وهو قلب غائب ليس بحاضر.

إذًا؛ فحضور القلب، وعدم انشغاله شرط في الانتفاع، والتَّذكُّر بالقرآن الكريم، وفي ذلك قال ابن القيِّم -رحمه الله- أيضًا: “فإذا حصل المؤثِّر: وهو القرآن. والمَحَلُّ القابل: وهو القلبُ الحي. وَوُجِدَ الشَّرط: وهو الإصغاء. وانتفى المانع: وهو اشتغالُ القلب، وذهولُه عن معنى الخطاب، وانصرافُه عنه إلى شيءٍ آخَرَ؛ حَصَلَ الأَثَرُ: وهو الانتفاعُ، والتَّذكُّر”[1].

ثالثًا: الجهل باللُّغة العربيَّة

أنزل الله -عز وجل- القرآن العظيم بلسان عربيٍّ مبين، كما قال -جلَّ جلالُه-: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ ۝ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192-195] وسبب تنزُّله باللُّغة العربيَّة: هو أنَّها “أفصح اللُّغات، وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنُّفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللُّغات”[2].

وإذا كان القارئ لا يعرف شيئًا عن لغة العرب، ولا يدرك أساليب كلامهم، فأنَّى له أن يتدبَّر القرآن، ويعقل عن الله تعالى الخطاب، وهو سبحانه يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. ويقول تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3].

والمقصود الأعظم من تعلُّم اللُّغة العربيَّة: هو معرفة كلامِ الله تعالى، وكلامِ رسوله ﷺ ومَنْ فاته تحقيق هذا المقصد، فقد أمضى عمره في غير ما طائل، بل ربَّما كان تعلُّمه حجَّة عليه، كحال الذين يتعلَّمون العربيَّة للطَّعن في القرآن، وعلوم الشَّريعة من المستشرقين، وأذنابهم[3].

رابعًا: تَرْك التَّدبُّر تورُّعًا

من النَّاس مَنْ يترك تدبُّر القرآن؛ خوفًا من القول على الله تعالى بغير علم، ويعتقد أنَّ تدبُّر القرآن مهمَّة المفسِّرين، والعلماء، فيكتفي بالقراءة هاجرًا تدبُّر القرآن، ظانًّا أنَّ هذا هو الورع مع كتاب الله تعالى، ولا ريب أنَّ هذه مكيدةٌ من مكايد الشَّيطان حتَّى يصرفَ النَّاس عن الانتفاع بتدبُّر آيات القرآن، وفي ذلك يقول ابن هُبَيْرة -رحمه الله-: “ومن مكايد الشَّيطان: تنفيرُه عبادَ الله من تدبُّر القرآن؛ لعلمه أنَّ الهدى واقع عند التَّدبُّر، فيقول: هذه مُخاطرة، حتَّى يقولَ الإنسانُ: أنا لا أتكلَّم في القرآنِ تورُّعًا”[4].

وأنكر ابن القيِّم -رحمه الله- على مَنْ هذا حاله بقوله: “ومَنْ قال: إنَّ له تأوُّلًا لا نفهمه، ولا نعلمه، وإنَّما نتلوه متعبِّدين بألفاظه؛ ففي قلبه منه حَرَج”[5].

والله تعالى يقول: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 2] فهذا تهييج للمؤمنين على نفي الحرج من قلوبهم عند تلاوة القرآن، أو سماعه، أو تدبره، أو العمل به.

 خامسًا: هجر كتب التَّفسير

مَنْ هَجَرَ كتب التَّفسير، ولم يطالعها، ولم يعرف أسباب النُّزول، أو النَّاسخ من المنسوخ، ونحو ذلك من علوم القرآن، كيف يحصل له تدبُّر القرآن؟ ومتى يوفَّق إلى المعنى المراد؟

ولا غَرْوَ أنْ تعجَّب الطبريُّ -رحمه الله- مِمَّنْ أراد التَّلذُّذ بقراءة القرآن، وهو لا يعرف تفسير الآيات المتلوَّة، فقال: “إنِّي أعجبُ مِمَّنْ قرأ القرآن، ولم يعلم تأويله، كيف يَلْتَذُّ بقراءته”[6].

سادسًا: التَّشاغل بكثرة التِّلاوة

لا ريب أنَّ الآيات، والأحاديث، والآثار الواردة في فضائل التِّلاوة تُشجِّع على الإكثار منها، ويعضد ذلك اقتصار كثير من المذكِّرين والوعَّاظ على الرِّوايات المنقولة عن السَّلف في كثرة القراءة، وعدد الختمات في وقت وجيز، مع إعراضهم عن نهي السَّلف عن سرعة القراءة، وإعراضهم كذلك عمَّا ورد عن السَّلف في تعظيم شأن التَّدبُّر، والحضِّ عليه، وما أُثِرَ عنهم من تفاعلهم، ووقوفهم عند معاني الآيات.

ففي الحثِّ على التَّدبُّر آيات، وأحاديث، وأحوال للسَّلف، أكثر عددًا من مثيلاتها الدَّالة على فضل القراءة، بل أقوى حجَّةً، وأعمق أثرًا، لو تأمَّلها النَّاس لما اقتصروا على التِّلاوة، ولما هجروا تدبُّر القرآن، قال النَّووي -رحمه الله-: “ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع، والتَّدبُّر، والخضوع؛ فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصُّدور، وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أنْ تُحصر، وأشهر من أنْ تُذكر”[7].

إذًا؛ فاستحباب كثرة التِّلاوة لا ينبغي أنْ يؤدِّيَ إلى ترك التَّدبُّر، ولذا جاء النَّهي عن قراءة القرآن في أقلَّ من ثلاثٍ؛ من أجل التَّدبُّر، والتَّأثُّر، والانتفاع بالآيات.

فكثرة التِّلاوة المؤدِّية إلى هجر التَّدبُّر حالة ليست بمحمودة، بل هي من تلبيس إبليس على القرَّاء، وفي ذلك يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: “وقد لَبَّسَ على قومٍ بكثرة التِّلاوة، فهم يَهُذُّون هَذًّا، من غير ترتيلٍ، ولا تثبُّت، وهذه حالةٌ ليست بمحمودة”[8].

المصدر: موقع الألوكة. بتصرف

  1. الفوائد (ص: 6).
  2. انظر: تفسير ابن كثير (2/467).
  3. انظر: هجر القرآن العظيم: أنواعه، وأحكامه، د. محمود الدوسري (ص 535) وما بعدها.
  4. انظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (3/273).
  5. انظر: التبيان في أقسام القرآن (ص 144).
  6. انظر: معجم الأدباء، ياقوت الحموي (5/256).
  7. انظر: الأذكار (1/87).
  8. انظر: تلبيس إبليس (ص 175).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى