إن الآيات القرآنية -كما قال أحد العلماء- كقطرات الماء التي تكون سببًا في إنبات الورود في البساتين، بينما تَنْبُت الأشواك في الأرض السَّبَخَة؛ ولهذا السبب ينبغي أن تتهيَّأ مُسبقًا الأرضيةُ حتى تتمَّ الاستفادة من القرآن.
إنَّ الوصفة القرآنية حالها حال الوصفات الأخرى؛ لا يُمْكِن أن تُعطي ثِمَارها وأُكُلَها من دون أن نعمل بها ونلتزمها بدقَّةٍ، وإلا فإنَّ قراءة وصفة الدواء مئة مرَّةٍ لا تُغْنِي عن العمل بها شيئًا.
ويَتَبادر إلى الأذهان: كيف نتلقَّى آيات القرآن؟
هل بالإكثار من تلاوته والتَّسابُق في عدد ختماته؟
هل بالتَّنافُس في قراءته من أجل تجميع أكبر قدرٍ من الحسنات، ونَيل الخيرات والبركات؟
هل بالقراءة في كتب التفسير وفَهْم معاني كلمات القرآن؟
هل ..؟ هل ..؟
كل هذه الأمور وغيرها جيِّدةٌ بلا شكٍّ، وخاصةً إذا صَلُحَت النية، ولكن يظل الاهتمام الأكبر والشُّغْل الشَّاغل المطلوب منا هو التَّحرُّك بهذا القرآن؛ لِتُصْبِح آياته بمثابة خارطة طريقٍ لنا في حياتنا نستضيء بأنوارها، ونسترشد بهديها؛ حتى نُقَوِّم في ضوئها المُعْوَجَّ من أفكارنا وسلوكياتنا، ونُهَذِّب أخلاقنا، ونُزَكِّي أرواحنا، وننتصر على أهوائنا.
لا بد أن نتلقَّى آيات القرآن للتطبيق والتَّنفيذ في كل ميادين الحياة، تمامًا كما يفعل الجُندي في ميدان القتال عندما يتلقَّى الأوامر من قائده.
يقول الإمام ابن القيم: “نَزَلَ القرآن لِيُعْمَل به، فَاتَّخَذُوا تلاوته عملًا؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العالِمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يَحْفَظوه عن ظهر قلبٍ، وأما مَن حفظه ولم يَفْهَمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله، وإن أقام حروفه إقامة السهم”[1].
إذن ماذا تُريد من قراءة القرآن؟
أُريد أن أَتَنَزَّه في روضات القرآن، وأَتَنَقَّل بين سُوَره أَتَنَسَّم عبيرَها، وأَقْطِف من ثمارها، وأَتَنَعَّم بمُناجاة الله عزَّ وجلَّ، وأَسْتَشْعِر أنني المُخاطَب بالآيات، وأَسْتَحْضِر في خاصَّة نفسي أن الله يَأْمُرني ويَنْهَاني، يُوجِّهني ويَزْجُرني، يُبَشِّرني ويُحَذِّرني، يَعِدُني ويتوعَّدني، وأَسْتَحْضِر في كل ذلك أنه يَرَاني ويَنْظُر إليَّ ويُراقِبني.
أُريد أن أَسْتَحْضِر آيات القرآن وأنا أُواجه تحديات الحياة وهُمومها ومُشكلاتها التي لا تنتهي ولا تتوقف.
أُريد من كل آيةٍ من آيات القرآن أن تَسْكُب في قلبي حلاوة الإيمان، وبَرْدَ اليقين، وروعة الأُنْس بالله، والثقة فيه، والتَّوكُّل عليه.
أُريد عند اشتداد الكُروب وتفاقُم الأزمات أن أجد في آيات القرآن ما يُسَلِّيني ويُثَبِّتني، فأجد في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155- 157] بَرْدًا وسلامًا يَنْزِل على قلبي؛ لِيُطْفِئ نيران الحَسْرة والألم.
أُريد عند استعار الشهوات وطُغيان المُنْكَرات أن أَسْتَمِع إلى صيحة يوسف الصديق عليه السلام: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]؛ لِأُرَدِّدها في وجه المرأة السَّافرة، والشاشة الهابطة، والمجلة الخليعة، والأغنية الماجنة .. كلها تُنادي: هَيْتَ لك.
أُريد عند استحكام قيود الذنوب والأوزار أن أتذكَّر النِّداء الكريم من ربٍّ ودودٍ، كريمٍ، رحيمٍ، يُخاطبني وأنا في قمة لحظات اليأس والإحباط بقوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
أُريد عندما أقرأ آياتٍ تتحدث عن نعيم الجنان أن يَمْتَلئ قلبي بمشاعر الرجاء والاشتياق، وعندما أقرأ آياتٍ تُنْذِرني لفحات النيران أن يَمْتَلئ قلبي بمشاعر الخوف والإشفاق.
أُريد عندما أقع في بَرَاثن الشيطان، وتَجْذِبُني نوازع الهوى، ويَغْلِبني طغيان الشهوة؛ أن أتذكَّر الحِصْن الآمن، والدِّرعَ الواقي: التقوى؛ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
أُريد .. وأُريد .. وأُريد ..
وهكذا كل آيةٍ من آيات القرآن الكريم لها دورٌ عظيمٌ أَسْتَحْضِرها في كل أوقات حياتي: في اليُسْر والعُسْر، في الشدة والرخاء، في الطاعة والمعصية، في أحوال القُرْب من الله والبُعْد عنه، في حالات قوة الإيمان وضعفه.
وأحسب عندها أن القلب سيمتلئ بمشاعر الإجلال والتَّعظيم، والخوف، والرجاء، والمحبَّة، وقوة الثقة بالله، وحُسن التَّوكُّل عليه، وغيرها كثيرٌ من الأعمال الإيمانية القَلبيَّة.
وأحسب عندها أنني سأَنْعَم بجنة الحياة، تلك التي قال عنها الإمام ابن تيمية رحمه الله: “إن في الدنيا جنةً مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة”[2]، وهي معرفة الله والأُنْس به.
وأحسب عندها أن الرغبة في مُتَع الدنيا وزخارفها ستَقِلُّ، في مُقابل ازدياد الرغبة في الآخرة: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73].
وأحسب عندها أن هذا هو سبيل السعادة الوحيد في الدنيا قبل الآخرة، وإلا فالمصير مُخيفٌ، والعواقب وخيمةٌ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124- 126].
المصدر: شبكة الألوكة.
- “زاد المعاد” لابن القيم (1/ 327).
- “المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام” لابن تيمية (1/ 153).