هيا بنـا نؤمن ساعة

استحيوا من الله حق الحياء

محمد منصور

أخرج الترمذيُّ في سننه عن النبي ﷺ أنه قال: استحيوا من الله حق الحياء فقالوا: إننا نستحيي والحمد لله، فقال ﷺ: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء[1]، وإن تعجب فعجب لأناس خلقهم ربهم بقدرته، ورزقهم برحمته، ودبّر شؤونهم في هذا الوجود بحكمته، ورعاهم في الدنيا برعايته، وأرسل إليهم خاتم النبيين، وإمام المرسلين ﷺ ليعرفوا أحكام دينه وشريعته، ثم بعد ذلك لا يستحيون من مولاهم حق الحياء، ولهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل!

ولو أنصفوا أنفسهم ومجتمعهم، وأدركوا مزايا هذا الخلق الكريم؛ لتمسكوا به، ولصدرت أفعالهم عنه، ولعاشوا غرَّة في جبين الزمان، وأدركوا ما أدركه أسلافهم من مجد عظيم، أشاد به المؤرِّخون، كلما قلبوا صفحات التاريخ الإسلامي، في عصوره المشرقة، وأيامه النضرات؛ لأن مَن حفظ الرأس وما وعى، فلم ينظر بعينه إلى محرّم، بل يشاهد ملكوت السموات والأرض؛ ليمتلئ قلبه إيمانًا بالله القوي القادر، الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدَى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، ورفع السموات بغير عمد، وزينها بالشمس والقمر والنجوم والكواكب، وسخر الليل والنهار، كلٌّ منهما يجري إلى أجل مسمى، وسخر الفلك والمراكب لتسير في البحر بأمره، وخلق الخلق وأحصاهم عددًا، وقسَّم الأرزاق ولم ينسَ أحدًا، وأنزل من السماء ماء القطر والمطر، فأنبت به في الأرض من كل زوج وصنف حسن بهيج، ولم يستمع بهما إلا لما يرضي مولاه، وما ينفعه في دينه ودنياه، ومما يسير به قدمًا نحو مدارج السعادة والرفاهية.

ولزامًا على كل إنسان ألا يستعمل لسانه في معصية، كغِيبة وسبٍّ وشتم، وتلفُّظ بالكلمات النابية، والألفاظ الشنيعة، وسوى ذلك مما يُغضِب الله الواحد القهار، بل يستعمله في الحدود الشرعية، وما يقربه من ربه؛ كقراءة القرآن، والذكر، والتوبة، والاستغفار، والتعبير عما يريد ويجول بخاطره، من كل ما فيه نفع له، ولمن يساكنهم ويعيشون معه على ظهر الكرة الأرضية، ومِن ألزم اللوازم لكل فرد أن يستعمل عقله وتفكيره فيما خُلِق لأجله فلا يدبر ما فيه ضرر لغيره، ولا يرسم الخطط لإيذاء سواه، بل يجعل تفكيره فيما يرضي الرحمن -جل جلاله- حتى يعيش في دنيا الناس سعيدًا موفقًا.

وعليه أن يحفظ البطن وما حوى؛ فلا يأكل إلا من الحلال، لأن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ولا يشرب شيئًا حرامًا؛ لأن الخمر وما يدور في فلكها من الكبائر، ولم يحرِّم ربنا علينا ذلك إلا لما يجرُّه على الناس من البلاء العظيم، الذي لمسه القريب والبعيد على حد سواء.

ومن أوجب الواجبات أن يبتعد عن الزنا ودواعيه؛ لآثاره السيئة في المجتمعات، وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار:19] وكل امرئ فيها بما كسب في دنياه رهين.

والكيِّس العاقل الفَطِن مَن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه خالقه العظيم، فيحاول جهد استطاعته أن يستبقَ الخيرات، ويسارع إلى الطاعات، يكثر من عمل الحسنات، ويعلم علم اليقين أن أنفاسه في الدنيا محدودة، وأن لحظات عمره مقدَّرة، وأن الموت باب وكل الناس داخله، فيأخذ من دنياه الزاد، ليوم الحساب والمعاد يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 – 37]، ويقول -تعالى-: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۝ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِ [الفجر: 23 – 24].

يوم يشيب من هوله الوِلدان، وتتغير الألوان، ويخرس اللسان، وتشهد بما عملت جوارح الإنسان، ويفرُّ فيه الخلائق من إنسٍ وجان، يوم تمور السماء مورًا، وتدور كالرحى مضطربة في دورانها، وتسير الجبال سيرًا سريعًا في الهواء كالسحاب، وتصير هباءً منثورًا، والهلاك الذي لا يعدله هلاك في هذا اليوم العظيم للمكذِّبين، الذين يخوضون مع الخائضين، ويندفعون في عصيانهم مع العاصين، ولا يعملون بأحكام الدين، فلا تنفعهم يومئذٍ شفاعة الشافعين، ويدخلون النار مع الداخلين، ويغل خزنتها أيديَهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيَهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى الجحيم كبًّا على وجوههم، ودفعًا عنيفًا في أقفيتهم، ويقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون، فتلفح وجوهَهم بلهيبها وهم فيها كالحون وعابسون.

فالحياء خلق كريم وعظيم، ولا يصدر عن المنصف به إلا العمل الطيب الذي ينفعه في حياته، وينتهي به في آخرته إلى الهناء المقيم، في جنات النعيم، ومَن لم يتَّخذ الحياء خُلقًا، تخبط في أموره، وأتى بكل قبيح في قوله وفعله.

المصدر: شبكة الألوكة.

  1. رواه الترمذي في سننه (2458)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1724).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى