الذكر الحكيم

قف مع سورة المزمل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن أول ما نزل من القرآن الكريم على الإطلاق سورة (اقرأ)، التي تحث في مجمل آياتها على فضل العلم وتعلمه؛ ذلك العلم الباعث على الهدى، والمعين عليه، وهو العلم عن الله المبلغ عن طريق رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ أمراً ونهياً وتوحيداً، ولعبادته على الوجه الذي أمر به، والاستقامة عليه.
ثم نزلت سورة المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:2] فبعد العلم تكون الدعوة إليه ونشره، وهو محض فريضة على عباد الله؛ فمنهم من يُعلِّم العلم، ومنهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ فهو ليس أمراً اختياريّاً إن شاء العبد فعله، وإن شاء تركه؛ لقوله تعالى في سورة فصلت: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وقوله تعالى في سورة آل عمران: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [آل عمران:104].
والعلم والدعوة إليه متلازمان لا ينفكان؛ فلا يفتر المؤمن عن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، خلال رحلة حياته، التي يستمر بها متعلماً وعاملاً، عابداً وداعياً.
ومما يطرأ على العباد بمختلف مشاربهم، وتعدد مستويات علمهم ودعوتهم: نوازع النفس وحظوظها، التي تدعوهم إلى العجب بعد ثناء الناس عليهم، أو إعجابهم بأنفسهم، فتجد العالم والمتعلم -على حد سواء- منخرطًا في الدروس والمحاضرات والأنشطة والفعاليات، وهو فضل كبير بلا شك، إلا أن هذا الفضل قد تشوبه شوائب الرياء أو العُجب، فالنية -ومحلها القلب- متقلبة، والثبات والإخلاص مطلب عزيز، ظفر به من منَّ الله عليه من صفوة عباده، الذين راقبوا الله سرّاً وعلانية، واجتهدوا بعد الاستعانة به -عز وجل- في تحقيق هذا المطلب العظيم.
وفي سورة المزمل إشارات عظيمة إلى هذه المعاني، وأحوال المؤمن مع الإخلاص قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2] فمن ذا الذي يقوى على قيام الليل بعد نهار طويل من الكد أو التعلم والتعليم والدعوة، وقد رأى أنه أحسن عمل نهاره فاكتفى به؟!
ومن ذا الذي يقوى على تلك العبادة التي لا رياء يشوبها، ولا ثناء عليها، ولا تشجيع من العباد معها، فترى المؤمن يتخفى فيها ليخلو بربه ويناجيه، فلا عين تبصره، ولا لسان يشكره، إلا عين الله تعالى.
فالإخلاص الذي يزمل المؤمن ليلاً في وقت السكون والركون، والذي يدعوه إلى هجر فراشه، وترك التلذذ بالراحة، وتحقيق أجلِّ معاني العبودية في قيام الليل، وإحيائه بالصلاة والذكر وترتيل القرآن وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4].
فشرف المؤمن قيامه بالليل، وقد أثنى الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه المجيد على قوام الليل، المتعبدين فيه كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].
وهنا تتجلى فضيلة ذكر الله على سائر الأعمال التعبدية؛ لما كان حظها من الرياء كاد أن يكون معدوماً، فخير العبادة ما كان مستتراً عن عيون الخلق، كما جاء في الأخبار عن المتصدق الذي لا تعلم شماله ما تنفق يمينه [أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (1/ 133-660) ومسلم في الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة رقم: (1031)].
وقيام الليل يورث نوراً في القلب، وسكينة في الجوارح، واطمئناناً يغمر صاحبه، فبه تتحقق العبودية الخالصة، وبه يُستعان على شدائد الأمور، ومصاعب الدعوة، وطريقها الوعر؛ لذا كان النبي -ﷺ- أكثر الناس قياماً في الليل، وكان ذلك متوافقاً مع كونه أشد الناس همّاً، وأثقلهم حملاً للدعوة والتبليغ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ۝ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:5-6].
فهذا القرآن الكريم ثقيل بثقل كلام الله -عز وجل-، وما يحمله من شرائع، المتمثلة بالفرائض والحدود والأوامر والنواهي، وما يتطلبه من مجاهدة للنفس والشيطان للقيام به ليلاً، وقال ابن المبارك: "إن ما ثَقُل في الدنيا يُثقل الميزان يوم القيامة" [تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/ 682)].
أَشَدُّ وَطْئًا أي أشد استقامة واستمرارًا على الصواب.
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7] والسبح -كما جاء في القرطبي-: الجري والدوران، أي فلك يا محمد ولقومك معك في النهار ما يشغلكم من أمور الحياة، والسعي في الأرض، من طلب رزق، أو دعوة ذهاباً ومجيئاً [تفسير القرطبي (19/ 42)]، أفلا يكون لنا بعد هذا الخطاب والوقوف على بعض أسراره حظ من عبادة السر، وتحصيل الشرف ليلاً؟!
الحقيقة أن لسورة المزمل شجوناً طويلة في نفوس المؤمنين، والفوائد منها كسائر سور القرآن الكريم لا تنقطع، وللسورة وقفات وأسرار قد يضيق بنا المجال في الوقوف عليها جميعاً، وبما سبق نكتفي سائلين المولى -عز وجل- أن يجعلنا من أهل الشرف والعزة، أصحاب الخلوات المباركة، بقيام الليل وإحيائه بالذكر، والتزمل بردائه الساتر عن بواعث الرياء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الناشر: موقع بوابة الفجر

المصدر: موقع بوابة الفجر

مواد ذات صلة

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى