الذكر الحكيم

إِنَّهُ وَحْيٌ.. فَتَعَرَّضُوا لَه!

فريد الأنصاري

سألني بعضُ الْمَشُوقِينَ بنور القرآن قال:

هذا كتاب الله بين أيدينا، فكيف نقتبس نوره؟ كيف نتلقَّى رسالاته؟ كيف نشعر بوقع كلماته في قلوبنا؟

كيف نكتشف ذلك النور الذي تتحدث عنه الآيات؟ وكيف نتلقى ذلك الروح الذي تفيض به الكلمات؟

ماذا نصنع حتى نتفاعل مع القرآن كما تفاعل معه جيل الصحابة الكرام، ومَنْ سار على أشواقهم من الصديقين، والشهداء، والصالحين عبر التاريخ؟

أو ليس هذا القرآن نفسه هو الذي تخرجت به هذه الأمة؟

قلت: بلى!

إلا أن المشكلة اليوم هي أننا نقرأ القرآن على أنه مجرد مصحف، لا روح فيه! صحيح أننا نؤمن أنه نزل في يوم ما من السماء، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- تلقاه عن ربه رسالةً إلى العالمين كافة.. تلك عقيدة لا يصح إيمان المسلم إلا بها.

نعم، ولكن المشكلة هي أن الشعور بهذه الحقيقة العظيمة اليومَ شعورٌ ميت، لا حياة فيه؛ لأننا في الغالب نربطه بالتاريخ الذي كان فقط، وكأن الطبيعة التنـزيلية للقرآن شيء كان، وانتهى، ولا معنى له اليوم في حياتنا المعاصرة! إنه في مخيلتنا العامة أشبه ما يكون بحجر، أو نَيْزَكٍ سقط يوما ما من نجمٍ مُذَنَّبٍ عابر في السماء، فكان أولَّ سقوطه حاميًا ملتهبًا! لكنه لم يزل يبرد شيئًا فشيئًا، حتى خَفَتَ، ثم انطفأت جمرته فصار حجرًا كأي حجر!

وأقصى ما ينتبه إليه الناس اليوم هو أنه حجر له قصة، وهي: أنه نزل في يوم ما من السماء.. وهنا ينتهي الأمر! فإذا فزعنا إلى التفاسير، والدراسات القرآنية؛ وجدناها في الغالب تحاول تحليل طبيعته على المستوى الشكلي، فتدرس المكونات اللغوية، والبلاغية، والطبقات الدلالية لهذه الآية، أو تلك، وكأنها مجرد معاجم للمعاني ليس إلا! تمامًا كما يدرس الجيولوجيون مكونات الحجر المعدنية، وطبيعتها، وتاريخها، ومستويات بريقها، واختلاف ألوانها، وأحجامها.. إلخ.

هكذا نتعامل مع القرآن في كثير من الأحيان.

إن ذلك كله شيء مهم، ولكنه لا يرتقي بالتعامل مع كتاب الله من مستوى “المصحفية” إلى مستوى “القرآنية”!

إن أهم فصل في تعريف القرآن المجيد هو أنه: “كلام الله رب العالمين!”

وما كان لكلام الحي الذي لا يموت أن يبلى، أو يموت! ولكن الذي يموت هو شعورنا نحن! والذي يبلى هو إيماننا نحن!

أما الوحي فهو عين الحياة!

وحقيقة “الوحي” هي أول صفة يجب أن نتلقى بها القرآن الكريم، وهي أهم جوهر يجب أن ننظر من خلاله إلى كلماته؛ بما هي كلمات الله رب العالمين!

ذلك أن كلام الله لا يتنـزل على الرسل إلا وحيًا..

قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51].

وهذا شيء مهم جدًّا! فكون القرآن “وَحْيًا” هو المعراج الرئيس الذي به يرتقي القارئ له إلى سماء القرآنية!

إنه المفتاح الذي به يكتشف طبيعة القرآن، ويبصر نوره، ويتلقى حقائقه الإيمانية، ورسالاته الربانية، ويشاهد شلالات الجمال، والجلال، حية متدفقة من منابع القرآن!

إن كون القرآن “وَحْيًا” ليس معنى تاريخيًا فحسب، بل هو معنى مصاحب لطبيعته أبدًا! بمعنى أن صلة القرآن بالسماء هي صلة أبدية..!

إن المشكلة هي أننا عندما نقرأ القرآن نربط الوحي فيه بذلك الماضي الذي كان! بينما الوحي نور حاضرٌ، وروح حي، يتدفق الآن في كل آيات القرآن، وينبع من تحت كل كلماته، شلالاتٍ من كوثر ثَجَّاجٍ!

لقد قُبِضَ رسولُ الله ﷺ فانقطع الوحي التاريخي، أي انقطع فعل التنـزيل الذي كان في الزمان، والمكان، بواسطة الملاك جبريل -عليه السلام- ولكن بقي الوحي القرآني، والوحي هنا صفة اسمية من أسماء القرآن المجيد.

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45].

وقال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4].

وقد قال أبو بكر لزيد بن ثابت -رضي الله عنه-: “إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ، لاَ نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ الْوَحْيَ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ!”.

وإنما سمي القرآن “وَحْيًا” لأنه نزل كذلك، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19].

فالوحي -كما ترى- له دلالتان: الوحي الحَدَثُ، أي النـزول الخفي من السماء، وهو سبب النبوة، وهو الذي انقطع.

والوحي الصفة، وهو لا ينقطع أبدًا.

وعليه سمي هذا القرآن المجيد “وَحْيًا” فالمعنى الأول مصدري، أي أنه مصدر لفعل “وَحَى، يَحِي وَحْيًا” ويقال “أوحى” أيضًا كما هو في القرآن.

المصدر: موقع “معرفة الله”.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى