إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ووصفه بصفاتٍ كثيرةٍ، ومن هذه الصفات وصفه بأنه “موعظة”، وقريبٌ من هذا المعنى وصفه بأنه “ذكرى”، وهذا أمرٌ يلمسه كل مَن قرأ القرآن.
ويعظم وقع هذه المواعظ على النفس حينما تُقرأ بقلبٍ حاضرٍ، وسمعٍ مُتَّصلٍ بقلبٍ شاهدٍ، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
قال بعض المُفسرين: إن الموعظة الحسنة في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] هي مواعظ القرآن.
وكذا قيل في تفسير قوله سبحانه وتعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر:49] أي: عن مواعظ القرآن.
يقول ابن جريرٍ في مقدمة “تفسيره” مُعلقًا على قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57] يقول: “جعله الله للمؤمنين شفاءً، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وَخَطَراته، فَيَكْفِيهم ويُغْنِيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته”[1].
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: “فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه مُحتويةٌ على الحِكَم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيءٍ على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خاليةٌ من التَّكلف، لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتِسَاف، تصلح لكل زمانٍ ومكانٍ، وتليق لكل أحدٍ”[2].
وعن محمد بن عُبادة المعافري قال: كنا عند أبي شُريحٍ رحمه الله، فكثُرت المسائل، فقال: “قد دَرِنَتْ قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حُميدٍ المَهْرِي فَاسْقُلُوا قلوبكم -من السَّقْل كالصَّقْل وزنًا ومعنًى- وتعلَّموا هذه الرَّغائب والرَّقائق؛ فإنها تُجدد العبادة، وتُورث الزَّهادة، وتَجُرُّ الصداقة، وأَقِلُّوا المسائل؛ فإنها في غير ما نزل تُقَسِّي القلب، وتُورث العداوة”[3].
قال الخليل في الوعظ: “هو التَّذكير بالخير وما يَرِقُّ له قلبه”، وقيل: “التَّخويف”[4].
وقال ابن الجوزي في “صيد الخاطر”: “قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظةٌ، فإذا انفصل عن مجلس الذِّكْر عادت القسوة والغفلة، فتدبَّرتُ السبب في ذلك فعرفتُه، ثم رأيتُ الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفةٍ من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها لسببين:
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تُؤْلِم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مُزَاح العِلة، قد تخلَّى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأَنْصَتَ بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشَّواغل اجتذبَتْه بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان؟!
وهذه حالةٌ تعمُّ الخَلْق إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم مَن يعزم بلا ترددٍ، ويمضي من غير التفاتٍ، فلو تَوَقَّف بهم ركبُ الطَّبع لَضَجُّوا كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة.
ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطَّبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحيانًا، فهم كالسُّنْبُلَة تُميلها الرياح، وأقوامٌ لا يُؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كَمَاءٍ دَحْرَجْتَه على صفوانٍ”[5].
وبرود العاطفة تجاه مواعظ القرآن أمارةٌ على ضعف الخشية وقِلة التَّأثر، قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، ويزداد خوف المؤمن القارئ للقرآن حينما يقرأ الآية التي قبلها: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر:22].
يقول ابن القيم: “لقد أسمع مُنادي الإيمان لو صادف آذانًا واعيةً، وشَفَتْ مواعظ القرآن لو وافقتْ قلوبًا خاليةً، ولكن عَصَفَتْ على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فَأَطْفَأَتْ مصابيحها، وتمكنتْ منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقتْ أبواب رُشْدِها، وأضاعتْ مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسكرتْ بشهوات الغَيِّ وشهادة الباطل فلم تُصْغِ بعده إلى المَلَام، ووُعِظَتْ بمواعظ أَنْكَى فيها من الأَسِنَّة والسِّهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأَسْرِ الهوى والشهوة، وما لجُرحٍ بميتٍ إيلام”[6].
يقول تعالى في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:20- 25].
وقال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:69- 70].
عن خالد بن معدان قال: “ما من الناس أحدٌ إلا وله أربع أعينٍ: عينان في وجهه لدنياه ومعيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب.
وما من أحدٍ إلا وله شيطانٌ مُتَبَطِّنٌ فَقَار ظهره، عاطفٌ عنقه على عاتقه، فَاغِرٌ فاه إلى ثمرة قلبه.
فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أبصرتْ عيناه اللَّتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب فيعمل به، وإذا أراد الله بعبدٍ شرًّا طمس عليهما، فذلك قوله: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]”[7].
المصدر: طريق الإسلام.
- تفسير الطبري (1/ 62).
- تفسير السعدي (ص853).
- “سير أعلام النبلاء” للذهبي (7/ 183).
- “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس (6/ 126).
- “صيد الخاطر” لابن الجوزي (ص23- 24).
- “الوابل الصيب من الكلم الطيب” لابن القيم (ص55).
- تفسير الثعلبي (9/ 36).