الذكر الحكيم

كيف نتأثر بالقرآن؟

محمد الخولي

إنّ إعجاز القرآن الكريم لم يتوقف عند روعة الألفاظ وجمال المعاني، بل هناك وجه آخر من أوجه الإعجاز ربما يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ألَا وهو الإعجاز التأثيري للقرآن.

ولقد ضرب لنا النبي ﷺ المثل الأعلى في التأثّر بالقرآن، فكان إذا سمعه رَقّ قلبه وذرفت عينه، ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أيضًا يتأثرون عند سماع القرآن تأثرًا عظيمًا، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى المرض وملازمة الفراش عندما استمع إلى بعض الآيات التي تتحدّث عن يوم القيامة.

ولكن كيف لنا أن نتأثر بالقرآن كما كان يتأثر النبي ﷺ وأصحابه؟

أولًا: تجديد العهد بالقرآن:

إنّ تجديد العهد بالقرآن والعودة إليه والمداومة على قراءته هي أولى الوسائل وأعظمها أثرًا؛ لذلك على العبد أن يجاهد نفسه على ذلك، وأن يصبر على مشقة ذلك؛ لأن هذه المشقة -إنْ وُجدت- هي نتيجة بُعد العهد بكتاب الله، لذلك عليه أن يستمر ولا ييأس، وليكن على يقين أنّ مَن داوَم على قرع الباب يوشك أن يُفتَح له، وأنَّ دوامَ نزول قطر الماء على الحجر يُحدِث فيه أثرًا لا محالة، فما بالك بأثر كلام الله على القلوب إذا داوم العبد عليه؟

ثانيًا: حضور القلب عند التعامل مع القرآن:

ينبغي للمسلم أن يجتهد في استحضار قلبه عند التعامل مع القرآن وإفراغه من الصوارف التي تحجبه عن التأثر بالقرآن، فقد قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ومما يساعد على ذلك استشعار أن الله -سبحانه- هو المتحدِّث بهذا القرآن، يقول ابن القيم -رحمه الله-: “إذا أردتَ الانتفاع بالقرآن؛ فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعَكَ، واحضر حضور مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به -سبحانه- منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله”[1].

ثالثًا: الجهر بتلاوة القرآن:

فالجهر بتلاوة القرآن يساعد على يقظة القلب ومِن ثمَّ التأثر بالقرآن، بخلاف ما لو قرأ المسلم سرًّا، فإنه يكون أقرب لشرود الذهن وانصراف القلب؛ ولقد كان النبي ﷺ يحب أن يجهر بالقرآن، فعندما سُئل ابن عباس -رضى الله عنهما- عن قراءة النبي ﷺ بالليل قال: “كان يقرأ في حجرته، فيَسمع قراءتَه مَن كان خارجًا”[2].

رابعًا: استشعار المسلم بأنه مخاطَب بكلّ آية:

فمِن أعظم أسباب التأثر بالقرآن: أن يستشعر المسلم بأنه هو المقصود بهذا الخطاب، وأن كلّ أمرٍ أو نهي هو مأمور به، فلقد فطن أصحاب رسول الله ﷺ لهذا الأمر جيدًا، ومن ذلك ما ورَدَ عن أنس بن مالك، أنه قال: “لمَّا نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي ﷺ فسأل النبيُّ ﷺ سعدَ بن معاذ، فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكَى؟ قال سعد: إنه لَجاري، وما علمتُ له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله ﷺ فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني مِن أرفعكم صوتًا على رسول الله ﷺ فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعدٌ للنبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ : بل هو من أهل الجنة[3].

خامسًا: الحرص على تدبر آياته ومعرفة معانيه:

فتدبُّر آيات القرآن ومعرفة ما غمض من معانيه بالرجوع إلى كتب التفسير؛ من أعظم أسباب التأثر به، والشعور بحلاوته في القلوب؛ لأن ذلك هو الأصل الذي أنزل الله القرآن لأجله، فقد قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29].

ولقد كانت هذه طريقة النبي ﷺ وأصحابه -رضوان الله عليهم- يقول ابن مسعود: “كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن”[4].

سادسًا: استخراج المواعظ والعِبر من قصص القرآن وأمثاله:

فالقرآن يحوي الكثير من القصص والأمثال، والعاقل مَن تدبَّرها وتأمَّلها واستخرج ما فيها من العبر، وتأثَّر بما فيها من المواعظ؛ لأن هذا هو الهدف الذي من أجله ذَكَر اللهُ هذه القصص والأمثال، فقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] كما قال تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 25] وقال أيضًا: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21].

يقول ابن قدامة -رحمه الله-: “ينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه مقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأنّ القصص لم يُرَد بها السَّمَر، بل العِبَر، فليُتنبه لذلك”[5].

سابعًا: عدم المبالغة في الانشغال بالإقامة للحروف:

فبعض المسلمين يُسرِف في الاهتمام بإقامة حروف القرآن ومع ذلك لا يترك مساحة ولو صغيرة للتدبّر والفهم؛ وذلك لأنه غفل عن كون القرآن يتكوّن مِن مَبانٍ ومَعانٍ، والمباني وسيلة للهدف الأعظم، وهو فهم المعاني؛ لذلك لا ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل إقامة المباني على حساب تدبّر المعاني، فلقد عدَّ ابن قدامة -رحمه الله- ذلك أحد مداخل الشيطان التي تحجب عن فهم القرآن، فقال -رحمه الله-: “وليتخلى التالي من موانع الفهم، مثل أن يخيّل الشيطان إليه أنه ما حقّق تلاوة الحرف، ولا أخرجه من مخرجه، فيكرره التالي، فيصرف همته عن فهم المعنى”[6].

ثامنًا: الحرص على قيام الليل بالقرآن:

فإنّ قيام الليل من أعظم العبادات وأحبها إلى الله، وأكثرها حضورًا للقلب؛ لذلك إن أراد المسلم التأثر بالقرآن فعليه أن يقوم الليل به، وهذه وصية الله تعالى لنبيه ﷺ حيث قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلً ۝ نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ۝ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً ۝ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 1-6].

المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية.

  1. الفوائد، لابن القيم (ص: 3).
  2. رواه البيهقي في السنن الكبرى (4699)، وصححه ابن حجر في نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار (2/ 13).
  3. رواه مسلم (119).
  4. رواه الطبري في تفسيره (1/ 80) وقال محققه: هذا إسناد صحيح. وهو موقوف على ابن مسعود، ولكنه مرفوع معنى، لأن ابن مسعود إنما تعلم القرآن من رسول الله ﷺ فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير.
  5. مختصر منهج القاصدين، لابن قدامة (ص: 54).
  6. مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص: 53).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى