هيا بنـا نؤمن ساعة

تطهير القلب من الحسد

فإن طهارة القلب من أمراضه، وخلوّه من أعراضها، هو أعظم أسباب قوته ولينته ورقته وخشوعه، وصاحبه هو خير الناس وأحبهم إلى الله، كما في الحديث عن رسول الله ﷺ: قلنا: يا نبي الله من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم، واللسان الصادق قلنا: يا نبي الله! قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه، ولا بغي ولا حسد قلنا: يا رسول الله! فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة قلنا: ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله، فمن على أثره، قال: مؤمن في خلق حسن[1].

فها هنا بيّن رسول الله ﷺ طريق نقاء القلوب وحقيقتها، وجمع بيانه ثلاث صفات هي: اجتناب الإثم، والبغي، والحسد.

فهذه الصفات هي من أخطر أمراض القلوب، والتي ما أصابت قلبًا إلا ملأته سوءًا، وظلمة، وطمست نوره وأضعفت بصيرته.

وإذا كانت الآثام تنكت نكتات سوداء في القلوب، فإن الحسد يأكل حسناتها الموجبة لنقائها كما تأكل النار الحطب.

والحسد هو: تمني زوال نعمة المحسود، أو هو البغض والكراهية لما يراه من حسن حال المحسود، وهو طبع لئيم يسكن القلوب الضعيفة الميتة مهما كان شأن أصحابها، فلربما وجدت المرء قد ملك من صفات الحسن، وأسباب الملك ما لم يملكه غيره؛ لكنه لغلبة طبعه الحاسد لا يحب رؤية النعمة على غيره.

أخي الكريم: واعلم أن الحسد هو من الاعتراض على حكم الله -سبحانه- كما قيل: “من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد”[2].

قال بعضهم: “ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحسود؛ نفس دائم، وهم لازم، وقلب هائم”. وإذا تأملت في قول الله -جلّ وعلا-: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] علمت أن الحسد طبع غالبًا ما يتسلل إلى القلوب، لكن القلوب الحية بالإيمان تبصر شعاعه، فتعكسه وتطرده وترده خائبًا، لكن القلوب الضعيفة تستجيب؛ ولذلك قال -تعالى-: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].

قال ابن تيمية: “ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه”[3].

قال النبي ﷺ: لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[4].

واعلم أخي أن الحسد كما يوجب قسوة القلب، ولؤم الطبع، وفساد الأخلاق؛ فهو يعطل القلب من اكتساب أعظم الثواب، إذ القلب الخالي من الحسد مملوء ولابد بالخير؛ فلا تجد صاحبه إلا يحدث نفسه بفعل الخيرات، وإن عجز عنها، قد سارت به نيته الصافية، وحبه لنفع العباد، ما لم تسر الصلوات والقربات بالعباد!

وقد قال ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى[5].

أخي: فإن رُمت القلب الطاهر؛ فوطن نفسك على الصبر، وجاهد نفسك في بذل النفع للعباد، تُحسن إلى من أساء إليك، وتصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتسامح من آذاك، في الحديث قال رسول الله ﷺ: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[6].

فكما أن تطهير قلبك من الحسد يوجب لك النقاء والسلامة؛ فهكذا صبرك على الحسود، واحتمالك لأذاه، وإحسانك إليه؛ يوجب لك الخيرية والراحة والنصر، كما يمتص حسد الحاسد ويرده، فإن الغالب في الناس أن الإحسان يمتلك قلوبهم، ويردهم إلى رشدهم.

كما قال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمفطالما استعبد الإنسان إحسان[7].

وأحسن منه قول الله -جل وعلا-: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].

المصدر: دار ابن خزيمة.

  1. رواه البيهقي في شعب الإيمان (6180)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2931).
  2. المستطرف في كل فن مستطرف، للأبشيهي (ص: 32).
  3. أمراض القلب وشفاؤها، لابن تيمية (ص: 21).
  4. رواه الترمذي في سننه (1935)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2755).
  5. رواه البخاري (1).
  6. رواه البخاري في الأدب المفرد (388)، وصححه الألباني.
  7. قصيدة عنوان الحكم، للبستي (ص: 36).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى