الذكر الحكيم

رمضان، والقرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ الصادق الأمين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن القرآن الكريم أنزله الله -عز وجل- في هذا الشهر الكريم قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185].

يقول ابن كثير -رحمه الله-: يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة، يعني: ابن الأسقع: أن رسول الله ﷺ قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع، وعشرين خلت من رمضان[1].

وقد روي من حديث جابر بن عبد الله، وفيه: “أن الزبور أنزل لاثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة” والباقي كما تقدم، رواه ابن مردويه.

وأما الصحف، والتوراة، والزبور، والإنجيل فنزل كل منها على النبيِّ الذي أُنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [الدخان: 3] ثم نزل بعده مفرقًا بحسب الوقائع على رسول الله ﷺ هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس، كما قال إسرائيل، عن السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس: أنه سأل عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [الدخان: 3] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وقد أُنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس:: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أُنزل على مواقع النجوم ترتيلًا في الشهور، والأيام” رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وهذا لفظه[2].

فنزول القرآن الكريم كان في ليلة مباركة، هي خير من ألف شهر إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [الدخان: 3] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۝ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3].

والقرآن الكريم له فضائل كثيرة منها: ما رواه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن؛ كمثل الأترجة، ريحها طيب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن؛ كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن؛ مثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن؛ كمثل الحنظلة ليس لها ريح، وطعمها مر[3].

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: الصيام، والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام، والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فيشفعان[4].

وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة[5] والبطلة هم الشياطين، والسحرة.

وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله ﷺ ونحن في الصفة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم، ولا قطع رحم؟ فقلنا يا رسول الله: نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم، أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل رواه مسلم.

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله ﷺ: من قرأ حرفًا من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[6].

ومما ينبغي على المسلم في هذا الشهر الكريم أن يغتنم أوقاته، ويكثر فيه من قراءة القرآن؛ لأن لكثرة القراءة فيه مزية خاصة، فقد كان جبريل -عليه السلام- يعارض النبي ﷺ القرآن في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين[7].

وكان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة، وغيرها، فقد كان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: “إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام”[8].

وكان مالك بن أنس إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف.

وكان قتادة -رحمه الله- يختم القرآن في كل سبع ليالٍ دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة.

وكان إبراهيم النخعي -رحمه الله- يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين. وكان الأسود -رحمه الله- يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر[9].

فهذا شهر القرآن، شهر فيه الأجور مضاعفة، فينبغي على المسلم أن يستغل أوقاته، ويعمرها بالطاعات، والقربات، ولا يترك وقته يضيع سدى، فما فات لن يعود.

نسأل أن يوفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن يجعلنا ممن يصوم، ويقوم رمضان إيمانًا، واحتسابًا، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

المصدر: موقع إمام المسجد

  1. ورواه الطبري، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (1497).
  2. تفسير ابن كثير (1/292).
  3. متفق عليه.
  4. رواه أحمد، والحاكم، وصححه، والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3882).
  5. رواه مسلم.
  6. رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6469).
  7. متفق عليه.
  8. التمهيد (6/111)، ولطائف المعارف (1/183).
  9. راجع لطائف المعارف (1/183).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى