الذكر الحكيم

القرآن والتدرج

مسعد عرفة

جاء الخبر في الحديث عن يوسف بن ماهك قال: إنِّي عند عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- إذ جاءها عراقيٌّ، فقال: “أَيُّ الكَفَنِ خير؟ قالت: وَيْحَكَ، وما يضرُّك؟! قال: يا أم المؤمنين، أرِينِي مصحفك؟ قالت: لِمَ؟ قال: لَعَلِّي أُوَلِّفُ القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غيرَ مُؤَلَّفٍ، قالت: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟! إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46] وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ، قال: فأَخْرَجَتْ له المصحف، فَأَمْلَتْ عليه آيَ السُّوَرِ”[1].

فلنتأمل هذا الأثر العظيم عن أمِّنا عائشة -رضي الله عنها- إذ فيه بيان المنهج الرباني القائم على التدرّج في التأثّر بالقرآن؛ فهذا الرجل العراقي جُلُّ هَمّهِ في ترتيب المصحف؛ فقالت عائشة -رضي الله عنها-: “وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟!” لأن المهم هو ما نستفيده من الآية من أحكام؛ لنعبد الله تعالى على بصيرة، ولنعمل بها في حياتنا، كما أمر الله خالقنا.

فكان بناءُ شخصية الإنسان المسلم في المرحلة الأولى من الإسلام متعلِّقًا بجانب العقيدة، والرقائق، والحديث عن الجنة والنار، والساعة، والصراط، ومشاهد يوم القيامة، وثواب المتقين، وعقوبة المجرمين، حتى إذا ترسخت العقيدة في القلوب، وصارت الجنة والنار كأنهما رأي العين، أنزل الله تعالى آيات الأحكام، وبيَّن فيها الحلال والحرام.

وفي عصرنا الحديث يوجد مَن يسلكون سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ولكن على غير هذا المنهج، فيبدؤون الناس بالأمر والنهي، والحلال والحرام، قبل أن تترسخ خشية الله –عز وجل- في القلوب، وقبل أن تنغرس في صدورهم الرهبة من النار، والرغبة في الجنة، فتكون النتيجة كما أخبرت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: “لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا… لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدً”.

ومن هنا ننتقل إلى مجال آخر من مجالات التدرج؛ فالتدرج في القرآن لم يكن قاصرًا على الأحكام الشرعية؛ بل كان القرآن أيضًا منهجًا ربَّانيًّا متدرجًا لإعداد النبي محمد ﷺ للرسالة.

قال الفيروزآبادي: “اتَّفقوا على أَنَّ أَوّل السُّور المكِّية اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] ثمَّ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم: 1] ثمَّ سورة المزمِّل، ثمَّ سورة المدَّثِّر…”[2].

فقبل أن يُنَزِّلَ اللهُ تعالى على النبيِّ ﷺ قوله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۝ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1-2] كانت التهيئة والإعداد لتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلً ۝ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ۝ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 1- 5].

وهذه لفتة رائقة تؤكد أنّ الهدف الأسمى من قيام الليل هو ترتيل القرآن وتدبّر معانيه، ومن ثم تتم تربية قائم الليل، وتأهيله لحمل أعباء الدعوة، وليعينه القرآن على تحمل كلّ أذى في سبيل الدعوة؛ كما قال عز وجل: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] فأكد -سبحانه وتعالى- في الآية الكريمة أن القرآن مُعينٌ لمن يقوم به الليل على تحمّل الأذى في سبيل الدعوة.

المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية.

  1. رواه البخاري (4993).
  2. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادى (1/ 98).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى