الذكر الحكيم

يا معشر القراء

الشيخ الدكتور عمر المقبل

يا معشر القراء[1]..

يُقبل رمضان الذي ارتبط شرف زمانه بأشرف كتاب نزل من السماء، وتُقبل معه النفوس المؤمنة التي أحبت ربها، وأحبت كتابه العظيم.

ومن صور هذا الإقبالِ: الرغبة في التأثر بالقرآن، وتحقيق أثره على النفس، والجوارح، والإقبالُ على الأئمة ذوي الأصوات الندية، الذين يعينون ـ بحسن تلاوتهم ـ على تحقيق ذلك.

وإن الحفاوة بالقراء ذوي الأصوات الحسنة هدي نبوي مبارك، كما قال ﷺ لأبي موسى: لو رأيتني، وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود[2].

وبهذه المناسبة، فإنني أرقم هذه الأسطر لأخواني القُرّاء -الذين يجتمع الناس عندهم في صلاة التراويح، وغيرها- حمَلَ عليها المحبةُ، والتواصي بالخير، ألخصها فيما يلي:

أولًا: الصوت الحسنُ نعمة من الله تستحق الشكر، ولا ريب أن مِن أعظم صور شكرها تسخيرها في أداء القرآن بالأداء الحسن، الذي يحبب للناس سماع كلام ربهم، ويقوي تأثيره فيهم، والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى، وزيادة في الخلق، ومِنّة، وأحق ما لبست هذه الحلة النفيسة، والموهبة الكريمة: كتاب الله؛ فنعم الله إذا صرفت في الطاعة؛ فقد قضي بها حق النعمة[3].

ثانيًا: اجتماعُ الناس عند الإنسان، خاصة مع صغر السن؛ مظنة الفتنة، إلا لمن وفقّه الله، فجاهدَ نفسه بالإخلاص، والحرصِ على التزين لله قبل التزين للخلق.

وقد كان السلف يخشون من قرع الأقدام خلفهم؛ خشية الافتتان، أو العُجب، والقارئ الموفق لا يرى أنه في معزل عن غبار هذه الأدواء، ولا تتوقف عنده عبادة المجاهدة، خاصة في مثل هذه الليالي التي يتتابع فيها قرع الأقدام مشيًا إلى مسجده.

ثالثًا: إسماع القرآن وتلاوته ضربٌ من ضروب الدعوة إلى الله وإحدى مهام الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 91، 92].

وكم قرأ الناسُ وسمعوا أن سبب هداية فلان من الناس آيةٌ تلاها القارئ الفلاني! وأن فلانًا تاب من المعصية الفلانية حينما سمع القارئ الفلاني، فهنيئًا لمن تاب الناس بسببه، وهو لا يدري؛ فالله الله أخي القارئ بتحبير القرآن، وأنت تتعبد لله بذلك، قاصدًا الدعوة به، مجاهدًا لنفسك على حسن القصد.

رابعًا: أداء القرآن بالتجويد سنةٌ مأثورة عن رسول الله ﷺ أخذها الناس بالأسانيد المتصلة، فأداء القراءة به سنةٌ لا ينبغي التقصير فيها، مع الحذر من التقعّر والتعمق الذي يُذهِب بهاءَ القراءة، ويشغل القارئ به عن المقصد الأكبر، وهو تدبر المعاني، وفهمها، قال ابن تيمية -رحمه الله-: “ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن: إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه”[4].

خامسًا: القارئ هو أولى الناس عنايةً بفهم ما يقرأ، خاصة مع تقادم سنوات إمامته، وقدرته على الرجوع لما خفي من المعاني.

إنني أعلم أن الوقت يضيق على القارئ في الشهر الكريم، وقد يذهب وقتٌ غير قليل على بعض القراء في مراجعة محفوظه، وهذا كلّه لا يعفيه من الحرص على تلمس معاني الغريب، كأدنى مرحلة تليق بمقامه، وكتب الغريب متوفرة مبذولة، وإلا فالأولى والأكمل أن يقرأ تفسيرًا مختصرًا لما يريد قراءته في الصلاة، فإن في هذا فوائد كثيرة، أهمها:

– تدبر ما يقرأه، مما يؤثر إيجابًا على حضور قلبه، وتأثره بما يتلو.

– ثبات هذه المعاني -أو أكثرها- في نفسه؛ لأنه قرأ المعنى، ثم تلا الآيات مستحضرًا لما وعى من المعاني.

– قوة تأثيرها على السامع الذي سيتأثر من القارئ الذي يُحسنُ الوقف، والابتداء، ونحو ذلك من علوم القرآن المرتبطة بفهم القارئ.

سادسًا: إسماعُ الناس لكتاب الله كاملًا من السنن المأثورة عن السلف الصالح -رضي الله عنهم- ولكن دون هذرمة، أو عجلة، بل بأناة، ودون إملال، بحيث تكون القراءة واضحة، يتحقق معها وضوح المتلوّ من الآيات.

ومن المحزن أنه في السنوات الأخيرة -وحرصًا على عدم تفلّت الناس عند بعضهم- حصل إخلال شديد، وتقصير عظيم في صلاة التراويح، وكأن السباق انتقل بين بعض الأئمة: أيهم ينتهي أولًا؟! وأصبحت الختمات تقسّم على سنوات! وبركعات قصيرة! بل ثبت عندي أن بعض الأئمة لا يزيد على ثلاثة أسطر في الركعة الواحدة!

ولا ريب أن هذا -إن كان الحامل عليه ما ذُكر- من قوادح الإخلاص!

والموفقُ من الأئمة من لم يلتفت لعدد من صلّى معه، بل يراعي السنة في ذلك، ولو لم يصل خلفَه إلا القليل، دون إخلال، ولا إملال. والله الموفق.

المصدر: موقع الشيخ عمر المقبل

  1. مصطلح “القراء” في كلام السلف المتقدمين يقصد به طلاب العلم، وغلب استعماله في العصور المتأخرة على من عرفوا بقراءة القرآن، وتجويده، وهم المعنيون بهذه المقالة.
  2. البخاري ح (5048)، ومسلم ح (793)، واللفظ له.
  3. أحكام القرآن لابن العربي (4/5).
  4. مجموع الفتاوى (16/50).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى