الذكر الحكيم

يا رفيقي في طريق النور

الشيخ الدكتور فريد الأنصاري

إن مَثَلَ القرآن، ومَثَلَ الناس في هذا الزمان، هو كثلاثة مسافرين تَاهُوا في الصحراء بليل مظلم! صحاري وظلمات لا أول لها، ولا آخر! فبينما هم كذلك إذ شاهدوا في السماء نجمًا مُذَنَّبًا لاَهِبًا، لم يزل يخرق ظلمات الأفق بنوره العظيم، حتى ارتطم بالأرض! فافترقوا ثلاثتهم إزاءه على ثلاثة مواقف:

فأما أحدهما فلم يُعِرْ لتلك الظاهرة اهتمامًا، بل رآها مجرد حركة من حركات الطبيعة العشوائية!

وأما الآخران فقد هرعا إلى موقع النَّيْزَكِ فالتقطا أحجاره المتناثرة هنا، وهناك.. وكانا في تعاملهما مع تلك الأحجار الكريمة على مذهبين: فأما أحدهما فقد أُعْجِبَ بالحجر؛ لِمَا وجد فيه من جمال، وألوان ذات بريق، وقال في نفسه: لعله يستأنس به في وحشة هذه الطريق المظلمة، ثم دسه في جرابه، وانتهى الأمر!

وأما الآخر فقد انبهر كصديقه بجمال الحجر الغريب! وجعل يقلبه في يده، ويقول في نفسه: لا بد أن يكون هذا المعدن النفيس القادم من عالم الغيب يحمل سِرًّا! لا يجوز أن يكون وقوعه على الأرض بهذه الصورة الرهيبة عبثًا! كلاَّ كلاَّ! لا بد أن في الأمر حكمةً ما! ثم جعل يفرك حجرًا منه بحجر، حتى تطاير من بين معادنه الشَّرَر! وانبهر الرجل لذلك؛ فازداد فركًا للحجر، فازداد بذلك تَوَهُّجُ الشَّرَرِ، وجعلت حرارة معدنه تشتد شيئًا، فشيئًا؛ حتى وجد ألم ذلك بين كفيه! بل جعلت الحرارة الشديدة تسري بكل أطراف جسمه، وجعل الألم يعتصر قلبَه، ويرفع من وتيرة نبضه! لكنه صبر، وصابر، فقد كان قلبه -رغم الإحساس بالألم، والمعاناة- يشعر بسعادة غامرة، ولذة روحية لا توصف! وما هي إلا لحظات حتى تحول الحجر الكريم بين يديه إلى مشكاة من نور عظيم! ثم امتد النور منها إلى ذاته، حتى صار كل جسمه سَبِيكَةً من نور، وكأنه ثريا حطت سُرُجَهَا، ومصابيحَها على الأرض! وجعل شعاع النور يفيض من قلبه الملتهب، فيعلو في الفضاء، ويعلو، ثم يعلو، حتى اتصل بالسماء! كان الرجل يتتبع ببصره المبهور حبل النور المتصاعد من ذاته نحو السماء، حتى إذا اتصل بالأفق الأعلى تراءت له خارطة الطريق في الصحراء! واضحة جلية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك! ووقع في قلبه من الفرح الشديد ما جعله يصرخ، وينادي صاحبيه معًا: أخويَّ العزيزين! هَلُمَّا إِليَّ! إِليَّ! لقد وجدت خارطة الطريق! لقد من الله علينا بالفرج! أخويَّ العزيزين! اُنْظُرَا اُنْظُرَا! هذا مسلك الخروج من الظلمات إلى النور! شَاهِدُوا شُعَاعَ النورِ المتدفق من السماء، إنه يشير بوضوح إلى قبلة النجاة! فالنجاةَ النجاةَ!

أما الذي احتفظ بقطعة من الحجر في جرابه، فلم يتردد في اتباع صاحبه، والاقتداء بهديه؛ لأنه كان يؤمن بأن لهذا المعدن الكريم سِرًا! ولقد أبصر شعاعه ببصيرة صاحبه، لا ببصيرة نفسه!

وأما الأول الذي لم ير في النجم الواقع على الأرض شيئًا ذا بال؛ فإنه رغم نداء صاحبه له لم يبصر شيئًا من أمر الشعاع المتدفق بالهدى! لقد كان محجوبًا باعتقاده الفاسد، فلم تَعْكِسْ مِرْآةُ قلبِه الصَّدِئَةُ نورًا! ولذلك لم يصدق من نداء صاحب النور شيئًا من كلامه، بل اتهمه بالجنون، والهذيان! ومضى وحده يخبط في الصحراء، ضاربًا في تيه الظلمات وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور من الآية: 40].

ثم انطلق الرجلان المهتديان يسيران في طريق النور، وإنما هما تابع، ومتبوع، فالمتبوع داعية يرى بنور الله، ويسير على بصيرة من ربه؛ بما كابد من نار الحجر، وشاهد من نوره! والثاني مؤمن بالنور مصدق بدعوة صاحبه، يسير على خطاه، وهديه، ولكنه يكابد في سيره عثرات من حين لآخر، وهَنَاتٍ، وذلك بسبب ما يلقي إليه الشيطان من وساوس، ومخاوف! وليس لديه ما يدفع به كيد الشيطان إلا ما يتلقى عن صاحبه! وبينما هما كذلك يسيران مطمئنين في طريقهما، إذْ سأل الرجلُ التابعُ صاحبَه المتبوع، فقال: أناشدك الله أن تخبرني كيف اكتشفت سر النور في هذا الحجر الكريم! لكن صاحب النور وجد أن اللغة عاجزة عن بيان حقيقة النور لصاحبه، فما كان منه إلا أن دس قطعة من الحجر الذي كان بين يديه في كف السائل؛ فصرخ الرجل من شدة حر الحجر الكريم، والتهابه! وجعل يقلبه بين يديه، ثم ألقاه بسرعة في كفه صاحبه! لكن صاحب النور قبض عليه بيد ثابتة مطمئنة! فعجب منه رفيقه، وقال: إنما أنت قابض على الجمر!

قال: نعم، هو كذلك! إنه القبض على الجمر! لكن لذة الروح بما يشاهد القلب من نور، وبما يجد من سعادة غامرة؛ ترفع عن الجسد الشعور بالألم، وتمنع حدوث الاحتراق! وإن نار الشوق، والإيمان لهي أقوى ألف مرة ومرة من نار الكفر والفسوق والعصيان! ولو وقعت الأولى على الثانية؛ لجعلتها سلامًا، وأمانًا على قلب العبد المؤمن قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء: 68-70].

نعم يا رفيقي في طريق النور! إن مكابدة القرآن في زمان الفتن، والصبر على جمره اللاَّهِبِ في ظلمات المحن؛ تلقيًّا، وتزكيةً، وتدارسًا، وسيرًا به إلى الله في خلوات الليل؛ هو وحده الكفيل بإشعال مشكاته، واكتشاف أسرار وحيه، والارتواء من جداول روحه، والتطهر بشلال نوره، النور المتدفق بالحياة على قلوب المحبين، فيضًا ربانيًا نازلًا من هناك، من عند الرحمن، الملك الكريم الوهاب!

المصدر: موقع طريق الإسلام.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى