هيا بنـا نؤمن ساعة

يا رجال الليل هبوا

قال الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة: 16].

وقال النبي ﷺ: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومغفرة للسيئات، ومَنهاة عن الإثم[1]، وفي فضله أحاديث كثيرة.

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: “لم أجد من العبادة شيئًا أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خَلَوْا بالرحمن فألبسهم من نوره”[2].

الأسباب الميسِّرة لقيام الليل:

اعلم أن قيام الليل صعب إلا مَن وُفِّق له بأسبابه الميسِّرة؛ فمن الأسباب ظاهر، ومنها باطن:

أما الظاهر: فهو ألَّا يُكثر من الأكل؛ كان بعضهم يقول: “يا معشر المريدين، لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فتناموا كثيرًا، فتخسروا كثيرًا”[3].

ومنها: ألَّا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال الشاقة.

ومنها: ألَّا يترك القيلولة بالنهار؛ فإنها تعين على قيام الليل.

ومنها: أن يتجنب الأوزار؛ قال الثوري: “حُرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبتُه”[4].

وأما الميسِّرات الباطنة: فمنها سلامةُ القلب للمسلمين، وخُلُوُّه من البدع، وإعراضُه عن فضول الدنيا.

ومنها: خوف غالب يلزم مع قِصَر الأمل.

ومنها: أن يعرف فضل قيام الليل.

ومن أشرف البواعث على ذلك الحب لله تعالى، وقوة الإيمان بأنه إذا قام ناجى ربه، وأنه حاضره ومُشاهده؛ فتحمله المناجاة على طول القيام.

قال أبو سليمان -رحمه الله-: “أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببتُ البقاء في الدنيا”[5].

وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ: إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أتاه إياه، وذلك كل ليلة[6].

وإحياء الليل مراتب:

  • المرتبة الأولى: أن يحيي الليل كله؛ رُوي ذلك عن جماعة من السلف.
  • المرتبة الثانية: أن يقوم نصف الليل؛ وهو مَروي أيضًا عن جماعة من السلف، وأحسن الطريق في هذا أن ينام الثلث الأول من الليل والسدس الأخير منه.
  • المرتبة الثالثة: أن يقوم ثلث الليل، فينبغي أن ينام النصف الأول والسدس الأخير، وهو قيام داود -عليه السلام-؛ففي الصحيحين: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه[7]. ونوم آخر الليل حَسَن؛ لأنه يذهب بآثار النعاس من الوجه بالغداة، ويقلل صفرته.
  • المرتبة الرابعة: أن يقوم سدس الليل أو خمسه، والأفضل من ذلك ما كان في النصف الأخير، وبعضهم يقول: أفضله السدس الأخير.
  • المرتبة الخامسة: ألَّا يراعي التقدير؛ فإن مراعاة ذلك صعب.

ثم فيما يفعله طريقان:

أحدهما: أن يقوم أول الليل إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام، فإذا غلبه النوم نام، وهذا من أشد المكابدة، وهو طريق جماعة من السلف.

وفي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-: “ما كنا نشاء أن نرى رسول الله ﷺ مصليًا من الليل إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائمًا إلا رأيناه”[8].

وكان عمر يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله، فيقول: “الصلاة الصلاة”[9].

وقال الضحاك: “أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة”[10].

الطريق الثاني: أن ينام أول الليل، فإذا أخذ حظه من النوم وانتبه، قام الباقي؛ قال سفيان الثوري: “إنما هي أول نومة، فإذا انتبهت لم أقلها [يعني: لم ينم]”[11].

  • المرتبة السادسة: أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين؛ فقد رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: صلوا من الليل؛ صلوا أربعًا، صلوا ركعتين[12].

وفي سنن أبي داود؛ قال رسول الله ﷺ: مَن استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليَا جميعًا ركعتين، كُتبَا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات[13].

وكان طلحة بن مصرف يأمر أهله بقيام الليل، ويقول: “صلوا ركعتين؛ فإن الصلاة في جوف الليل تحط الأوزار”[14].

فهذه طرقُ قسمة الليل، فلينحر المريد لنفسه ما يسهل عليه، فإن صَعُب القيام عليه في وسط الليل فينبغي ألَّا يخلَّ بإحياء ما بين العشاءين وورد السحر؛ ليكون قائمًا في الطرفين، وهذه مرتبة سابعة.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه.

المصدر: دار القاسم

  1. رواه الترمذي في سننه (3549)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4076).
  2. كتاب التهجد وقيام الليل، لابن أبي الدنيا (ص: 342).
  3. مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص: 67).
  4. المصدر السابق (ص: 67).
  5. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لابن رجب (ص: 45).
  6. رواه مسلم (757).
  7. رواه البخاري (3420)، ومسلم (1159).
  8. رواه النسائي في سننه (1627)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1208).
  9. رواه مالك في الموطأ (389)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1240).
  10. مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص: 69).
  11. المصدر السابق (ص: 69).
  12. رواه النسائي في سننه (1627)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1208).
  13. رواه أبو داود في سننه (1451)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (626).
  14. كتاب التهجد وقيام الليل، لابن أبي الدنيا (ص: 253).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى