يقول ابن كثير -رحمه الله-: “يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبيّنًا علوّ قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21] أي: فإنْ كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه؛ لخشع وتصدّع من خوف الله -عز وجل- فكيف يليق بكم -أيها البشر- ألّا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟!”[1].
ولقد عاب الله على مَن لا يتأثر بالذِّكر، وأعظم الذِّكر القرآن، فقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22] وذكر -سبحانه- أن ذلك من أوصاف المشركين والمنافقين، فقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [التوبة: 124] وقال تعالى: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 16].
صور من التأثّر بالقرآن:
ولقد ضرب لنا النبي ﷺ المثل الأعلى في التأثّر بالقرآن، فكان إذا سمعه؛ رَقّ قلبه، وذرفت عينه؛ لعلمِه بعظمة القرآن، فعن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: “قال لي النبي ﷺ : اقْرَأْ علَيَّ القُرآنَ، قلتُ: يا رسول الله، أقرأُ عليك، وعليك أُنزِل؟! قال: إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فقرأتُ عليه سورة النساء، حتى جئتُ إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 40] قال: حَسْبُكَ الآن فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان”[2].
ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أيضًا يتأثرون عند سماع القرآن تأثرًا عظيمًا، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى المرض، وملازمة الفراش عندما استمع إلى بعض الآيات التي تتحدّث عن يوم القيامة، فعن جعفر بن زيد أنّ عمر بن الخطاب خرج يعسّ بالمدينة ليلةً ومعه غلام له، وعبدالرحمن بن عوف، فمرّ بدار رجل من المسلمين فوافقه وهو قائم يصلي، فوقف يسمع لقراءته، فقرأ: وَالطُّورِ [الطور:1] حتى بلغ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور: 7- 8] فقال عمر: “قسَم ورب الكعبة حقّ، فاستسند إلى حائط فمكث مليًّا، فقال له عبدالرحمن: امضِ لحاجتك، فقال: ما أنا بفاعل الليلة إذ سمعتُ ما سمعتُ، قال: فرجع إلى منزله فمرض شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه”[3].
المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- تفسير ابن كثير (8/ 78).
- رواه البخاري (5050).
- تاريخ دمشق، لابن عساكر (44/ 308).