الذكر الحكيم

هداية القرآن

الحمد لله الذي أنزل الكتاب قَيِّمًا، ولم يجعل له عِوَجًا، يُبَشِّر المؤمنين، ويُنْذِر الكافرين، ويهدي العباد به إلى صراطٍ مستقيمٍ.

أما بعد: فإن أعظم وجوه إعجاز القرآن الكريم كونه كتاب هدايةٍ للناس؛ عربهم وعجمهم، عالِمهم وجاهلهم، يَرِدُونه فيجدون فيه الهداية التي تُخرجهم من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1- 2]، وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، ويقول تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ۝ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15- 16].

فهذا القرآن يهديهم إلى طرق النَّجاة ومناهج الاستقامة، ويُنْجِيهم من المهالك، ويُوضح لهم أَبْيَن المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحبّ الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويُرشدهم إلى أقوم حالةٍ.

إن هداية الخَلْق لما كانت طريقَ تحقيق الغاية التي خُلِقَ لأجلها الجنُّ والإنس؛ فإن الله تعالى قد جعل ذلك الطريق غايةً من غايات نزول القرآن الكريم، فقال عزَّ وجلَّ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

فتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الكريم عن ربِّه تعالى، ولم يكن يَدْرِهِ من قبل، فَبَلَّغه للناس، وهداهم به إلى الصراط المستقيم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على الناس، فكان لسماعه بين الناس أثرٌ عظيمٌ.

ومما يدل على أثر هذا القرآن في النفوس، حتى في نفوس المشركين: أنهم لم يستطيعوا إخفاء ذلك الشعور الذي أحدثه فيها، فاضطرهم لمدحه بالقول، وإن لم يُؤمنوا به، قال الوليد بن المُغيرة: “والله ما فيكم رجلٌ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم بِرَجَزِه ولا بِقَصِيده مني، ولا بأشعار الجنِّ، والله ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوةً، وإن عليه لَطَلَاوةً، وإنه لَمُثْمِرٌ أعلاه، مُغْدِقٌ أسفله، وإنه لَيَعْلُو، وما يُعْلَى، وإنه لَيَحْطِم ما تحته”[1].

ولما ذهب عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه إغراءات قريشٍ أَنْصَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال حتى انتهى من قوله، فقال عند ذلك: أَفَرَغْتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فَاسْتَمِعْ مني. قال: أفعل. فَتَلَا عليه آياتٍ من سورة فصلت، فرجع عتبة، فقال بعض أصحابه لبعضٍ: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني -والله- قد سمعتُ قولًا ما سمعتُ بمثله قطّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكَهَانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعْتَزِلُوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ نبأٌ”[2].

هذا قول بعض مَن أثَّر عليهم القرآن، ولكنهم لم يهتدوا به؛ كِبْرًا وحسدًا.

أما مَن فتح من المشركين آنذاك سمعَه وقلبَه للقرآن فقد ولج كلامُ الله إلى نفسه المُظلمة؛ فَشَعْشَعَ في جوانبها النور؛ لقوة تأثيره عليها، حتى أعلنتْ شهادة الحقِّ، فدخلتْ في دين الله تعالى.

إن المشركين لما علموا قوة تأثير القرآن على نفوس الناس نَهَوهم عن استماعه، وأمروهم بإحداث الضَّجيج عند تلاوته؛ حتى لا يصل إلى أسماع الناس، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، ولكن رغم حربهم الإعلامية، وتشديداتهم الداخلية المُحَذِّرة من سماع القرآن لقاطني مكة ووافديها إلا أنهم لم يُفلحوا مع كل الناس، فالطُّفَيل بن عمرو الدَّوسي حينما قدم مكة وعرفتْ قريشٌ مكانته حذَّرته تحذيرًا شديدًا من سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ به الأمر إلى أن حَشَا القطن في أُذُنيه؛ لكي لا يسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولكن رحمة الله بالهداية متى أُريد لها النَّفاذ إلى القلوب فلن يمنعها شيءٌ.

قال الطُّفيل: “فأبى الله إلا أن يُسْمِعَني بعض قوله، فسمعتُ كلامًا حسنًا، فقلتُ في نفسي: وَاثُكْلَ أُمي! والله إني لرجلٌ لبيبٌ شاعرٌ، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟! فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلتُه، وإن كان قبيحًا تركته .. فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعتُ قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحقِّ”[3].

ولا غرابة أن يُحْدِث القرآن هذا التأثير في نفوسهم، وقد قال الله تعالى عنه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].

المصدر: موقع طريق الإسلام.

  1. رواه الحاكم في “المستدرك” (3914).
  2. سيرة ابن إسحاق (ص207).
  3. سيرة ابن هشام (2/ 23).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى