إن نعمة الإيمان بالله سبحانه هي جنة الدنيا، وطوق النجاة الذي يحتمي به العبد أمام أمواج الشهوات والشبهات والفتن العاتية، وهو دواء القلوب الذي متى غفل عنه الإنسان لهثًا وراء حطام الدنيا الفانية ضاق عيشُه ومرض قلبُه؛ فمجرد أن تثبت شجرة الإيمان في قلب العبد إلا وعادت عليه بكلِّ خيرٍ عاجلٍ وآجلٍ في الدنيا والآخرة، ولِمَ لا وهي شجرة مباركة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء.
وفيما يلي نقف على بعض ثمرات الإيمان في القلب خاصةً؛ وذلك لشدة حاجتنا لمعرفة هذه الثمرات والسعي في تحصيلها، لعظم آثارها وانعكاساتها على حياة الإنسان؛ ومن ذلك:
أولًا: هداية القلب إلى الرضا بقضاء الله وقدَره والصبر عليه:
فإنّ الحياة الدنيا لا تخلو من الابتلاءات والمنغِّصات في النفس والأهل والمال؛ فقد قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]، وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
والناس في تلقّي هذه الابتلاءات والمنغِّصات مختلفون؛ فمنهم الهَلوع الجَزوع -وهذا حال أكثر الناس-؛ كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج: 19، 20].
ومنهم المؤمن الذي يدرك أن كلَّ بلاء ينزل بقضاء الله وقدَره وبعلمه وبمشيئته وبمقتضى حكمته؛ فيهدأ قلبُه، وتسكن نفسه عند نزول المصائب؛ لأنه حقَّقَ الإيمان، وقام بما يجب عليه من لوازمه، كالصبر والتسليم والرضا والاحتساب؛ فقد قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11].
وهذه الآية من أعظم الآيات التي تصوِّر لنا أثر الإيمان وثمراته في حياة العبد عند نزول البلاء؛ حيث إنّ الإيمان يعصم صاحبَه من السخط وقت الابتلاءات، لِعِلْمه بأنها بقضاء الله وقدَره، وأنها لا تخرج عن حكمته سبحانه.
ثانيًا: هداية القلب للتوكل على الله:
فالتوكل هو صدق اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الأخذ بالأسباب، وهو من علامات صدق الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون قدر توكُّله على الله سبحانه؛ قال الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51].
يقول الشيخ السعدي: “وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم، ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم، فلا خاب مَن توكل عليه. وأمَّا مَن توكل على غيره فإنه مخذول غير مدرك لِمَا أمّل”[1].
فإذا حقّق العبدُ التوكلَ على الله؛ اطمأنّ قلبه، وارتاحت نفسه؛ لأنه يأوي إلى ركنٍ شديدٍ، ويفوِّض أمره ويعتمد بقلبه على مَن بيده ملكوت السماوات والأرض، وعلى مَن لا يعجزه شيء؛ قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3].
ثالثًا: هداية القلب للحياة الطيبة:
فكلُّ الناس يبحث عن الحياة الطيبة، ولكن القليل مَن يعرف الطريق إليها، فكم من إنسان بذل حشاشة نفسه، وضيَّع زهرة عمره وأغلى سِنِي حياته من أجلِ تحقيق السعادة، فلم يدركها؛ لأنه إنما ضلّ الطريق إليها، وظنّ أن السعادة في جمعِ الأموال، وإشباعِ لذّات الأبدان.
لكن الطريق الصحيح لإدراك الحياة الطيبة لن يكون إلا بتحقق الإيمان بالله سبحانه؛ فقد قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسير قوله: “فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] وذلك بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوِّش عليه قلبه، ويرزقه اللهُ رزقًا حلالًا طيّـبًا من حيث لا يحتسب”[2].
ويقول الدكتور مجدي الهلالي: “كلّما حافظ المرءُ على الإيمان بالله ولوازمه؛ عاشَ حياة طيبة، لانسجام ذلك مع فطرته التي فطره اللهُ عليها، وكلّما ابتعد عنه؛ كانت الوحشة والضيق والقلق بقدر هذا الابتعاد”[3].
وهذا ما يشهد له الواقع؛ فكم من غنيٍّ ضاقت به الدنيا بما رحبت، لأنه فقيرٌ إلى الإيمان. وكم من فقيرٍ مُعدَمٍ قد ملَك الدنيا في قلبه؛ لأن حياته عامرة بالإيمان والعمل الصالح.
رابعًا: شعور القلب بالأمن والهداية في الدنيا والآخرة:
فمِن ثمرات الإيمان: الشعور بالأمن والأمان، هذا الشعور الذي لا يُقدَّر بثمن، فمَن فقَدَ الإيمان فقدَ نعمة الأمن والأمان؛ فيستوحش قلبُه من كلِّ شيء، ويستوحش منه كلُّ شيء، فلا أمان ولا طمأنينة، بل خوف وقلق وتوتّر، هذا حاله في الدنيا. وأمّا في الآخرة فالأمر أعظمُ، والخَطْب أجلُّ؛ إنه يوم الفزع الأكبر، ولا أمان وقتئذٍ إلا لأهل الإيمان؛ فقد قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]؛ يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا؛ هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة”[4].
المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي (ص: 339).
- المصدر السابق (ص: 448).
- الإيمان أولًا، لمجدي الهلالي (ص: 4).
- تفسير ابن كثير (3/ 294).