الذكر الحكيم

من أحب شيئاً أكثر من ذكره

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن لكل دعوى بينة وبرهان، ودعوى محبة الله سبحانه تحتاج إلى بينة وبرهان، وقد قال -عز وجل- في كتابه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، فمحبة الله -عز وجل- أصل دين الإسلام وأساسه الذي يدور عليه قطب رحاه، وبكمال المحبة يكمل الإيمان، وبنقصانها ينقص توحيد الإنسان، وهي واجبة بإجماع المسلمين، ويتوجب على الإنسان المكلف أن يأتي بما يوصله إلى محبة الله -عز وجل-؛ ليستكمل لوازم الإيمان وشروطه، ومحبة العبد لربه سبحانه الواجبة هي محبة التعظيم والإجلال والانقياد والعبادة وليست كغيرها من أنواع المحبة.

ومما لا شك فيه أن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، ومن أحب شخصاً فيلاحظ عليه أنه يكثر الاستشهاد بكلامه وقد لا يخلو مجلس من مجالسه إلا ويذكر من يُحب أو ينقل شيئاً من كلامه، فكيف بحال المحبين الله تعالى والمحبين لكتابه!!.

قال إبراهيم بن الجنيد: “كان بعض العبّاد يقول: وإن من أخلاق أهل محبة الله كثرة الذكر في ساعات الليل والنهار بالقلب واللسان، فإن أمسك اللسان فالقلب، فإن ذكر القلب أبلغ وأنفع”[1].

أخي العزيز: إذا أردت أن تعلم ما عندك من محبة الله لله -عز وجل- فانظر محبة القرآن الكريم من قلبك، فإن من المعلوم أن من أحب محبوباً كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه، فلا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم، ومن هنا كان عكوف المحبين لله على كتابه، تلاوةً وتفسيراً وتدبراً واستشهاداً به في كل موقف، فيكثرون من القراءة نظراً وحفظاً.

 فالمحب لله يواظب على التهجد وقراءة القرآن في شهر القرآن فيغتنم هدوء الليل، وصفاء الوقت وانقطاع العوائق، فأقل درجات التنعم مناجاة الحبيب، ومن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذّ عنده من مناجاة الله فيكف تصح محبته؟

يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله -عز وجل- فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله تعالى، فإنما القرآن كلام الله تعالى”[2]، فالمحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فتجد لسانه لا يفتر عن ذكر خالقه ومولاه، تالياً لكلامه عاملاً به قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “لا تبلغوا ذروة هذا الأمر إلا حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله، ومن أحب القرآن فقد أحب الله، افقهوا ما يقال لكم”[3].

فلا شيء أنفع للقلب وأجلب لمحبة الله من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والشكر والصبر وسائر الأحوال وأعمال القلوب، ثم يزجر عن الصفات المذمومة والأفعال القبيحة التي تفسد القلب وتهلكه.

وقد أهمل الناس هذا الجانب، ولم يفقهوه، قال الحسن البصري -رحمه الله-: “أُنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً”[4]. يعني: أنهم اقتصروا على تلاوته، وتركوا العمل به.

فالتفكر بالقرآن أصل صلاح القلب، والعمل به متمم لذلك، ولابد لهذا من هذا[5].

فالمُحب الصادق أيها المبارك! لا يفتر لسانه عن ذكر الله سبحانه، ولا يخلو عنه قلبه؛ لأن من أحب شيئًا أكثر من ذكره بالضرورة، ومن ذكر ما يتعلق به أحب عبادته وكلامه وذكره وطاعته وأولياءه.

نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب من يحب وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، والحمد لله رب العالمين.

  1. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 186).
  2. السنة لعبد الله بن أحمد (125)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 242): “رجاله ثقات”.
  3. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 278).
  4. تلبيس إبليس (ص: 101).
  5. انظر: المحبة للشيخ المنجد (36-37).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى