يقول الله تبارك وتعالى مُخاطبًا رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن القرآن الكريم، وعن الهدف من تنزيله: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].
فالقرآن الكريم هذا الكتاب المعجزة، ذو الخصائص العجيبة، والمزايا التي لا تُحْصَى، ومنها: التَّعبد بمجرد تلاوته، ونيل الحسنات بمجرد قراءته، إلا أن المقصد الأول من إنزاله هو تدبّرُ آياته، وتذكُّر أصحاب العقول والأفهام؛ ليعيش به المسلمون في واقع حياتهم، بل لتعيش به الإنسانية سعادةَ الدنيا والآخرة.
والتَّدبر هو المرحلة التي تسبق العمل.
ومن هنا نتساءل: ما أهمية القراءة بدون فهمٍ وتدبُّرٍ؟ وما أهمية الفهم بدون تطبيقٍ؟ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
وإذا نظرنا إلى واقعنا نحن -المسلمين- مع القرآن نجد أنه واقعٌ مُؤرِّقٌ، وعلاقتنا به يحكمها الهَجْر والعقوق، حتى لكأنَّ بعض عِلَل الأمم السابقة التي حذَّر منها القرآن قد تسرَّبتْ إلينا، قال تعالى واصفًا حال اليهود: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78].
وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في تفسير هذه الآية: “عن ابن عباسٍ وقتادة في قوله: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي: غير عارفين بمعاني الكتاب، يعلمونها حفظًا وقراءةً بلا فهمٍ، ولا يَدْرُون ما فيه، وقوله: إِلَّا أَمَانِيَّ أي: تلاوةً، فهم لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يُتلى عليهم”[1].
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ما معناه: “حال المسلمين اليوم مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المُعمَّقة؛ ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، وإتقان الغُنَن والمدود”.
أقول: إن الشيخ رحمه الله مُتفائلٌ، فهذا القَدْر الضَّئيل غير مُتحقِّقٍ فينا.
ثم تابع قائلًا: “لكنهم -بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم- صنعوا عِبْئًا ربما لم تصنعه الأمم الأخرى، فإنَّ كلمة “قرأتُ” عندما يقولها الإنسان الأُمي، مثلًا: أنَّ رسالةً جاءتْه، أو كتابًا وقع بين يديه، فنظر فيه، وفهم المقصود منه، فلا فِكَاك بين الفهم والقراءة.
أما الأُمة الإسلامية اليوم فقد فصلتْ بين التلاوة والتَّدبر، فأصبحنا إذا قرأنا نقرأ لمجرد البركة، أو نيل حسنات التلاوة، وكأنَّ ترديد الألفاظ دون وعيٍ لمعانيها وعملٍ بما فيها هو المقصود.
لذلك وجدنا الأُمة الإسلامية عندما هجرتْ كتابها، أو على الأقل أخذتْ تقرؤه على أنه تراتيل دينية، فإنها فقدتْ صِلَتها بالكون، وكانت النتيجة أن الذين درسوا الكون خدموا به الكفر، واستطاعوا تسخير الكون لأنفسهم ومبادئهم، أما نحن -مع أن كتابنا كتاب الفكر والتَّجاوب مع الكون- فما الذي صرفنا عن هذا كله؟!”.
القرآن كتابٌ يصنع النفوس، ويصنع الأمم، ويبني الحضارات، هذه قُدرته، وهذه طاقته، فأما أن يُشْعَلَ المصباح فلا يرى امرؤٌ النور؛ لأنَّ بصره مُغلقٌ، فالعيب عيب البصر، وليس عيب النور: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة:15- 16].
يقول عالم النَّفس المسلم د. مالك البدري في كتابٍ له لطيف الحجم، غزير الفائدة، عنوانه: “التَّفكر من المُشاهدة إلى الشهود”، وأنقل كلامه بشيءٍ من التَّصرف: إذا داوم المرء على التَّفكر أصبح له عادةً طيبةً مُباركةً، وخشع قلبه، وأصبح يستجيب لكل مُثِيرٍ في بيئته بالطيب من الأحاسيس والمشاعر.
ويرى الدارسون لظاهرة “التَّأمل الارتقائي” أن تركيز الذهن مع التَّرديد لمعنًى إيمانيٍّ أو لصورةٍ ذهنيةٍ لها قيمةٌ كبيرةٌ لدى الشخص المُتفكر سيُؤديان به إلى تصورٍ أعمق، ومفاهيم جديدةٍ عن موضوع التَّفكر والتَّأمل، ويرتقيان به إلى أُفقٍ أرفع من المعاني والتَّصورات التي لم يكن يُدركها بسبب الحياة العادية والأُلْفَة والإدراك الحسي الروتيني المحدود، ومن ثمَّ وُصِفَ ذلك التَّأمل بالارتقائي؛ لأن صاحبه يرتقي من أُفقٍ إلى أُفقٍ أعلى منه.
هل هناك أعلى وأغلى وأروع من القرآن الكريم مادةً للتفكير والتَّأمل والتَّدبر وتركيز الذهن والتكرار؟
أليس في الأحاديث النبوية الكثيرة الواردة في الأذكار أذكارٌ بعضها يُكرّر ثلاث مراتٍ، وبعضها سبعًا، وبعضها عشرًا، وبعضها ثلاثًا وثلاثين، وبعضها مئة مرةٍ، وبعضها كلما أكثر منها صاحبها كان أكبر أجرًا؟
لقد كان بعض السلف رضي الله عنهم يُكررون الآية الواحدة أو شطر الآية مراتٍ عديدة، وكان بعضهم يُنفق في السورة الواحدة أو جزءٍ منها عدة ساعاتٍ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلةً كاملةً بآيةٍ واحدةٍ يقرؤها ويُرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى في سورة المائدة حكايةً عن عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118][2].
هذا إذن الأصل الشرعي لفكرة التَّكرار بوصفه مُعينًا على التَّفكر والتَّدبر.
المصدر: شبكة الألوكة.
- “مجموع الفتاوى” لابن تيمية (17/ 434).
- رواه النسائي (1010)، وابن ماجه (1350)، وصححه الألباني في “مشكاة المصابيح” (1205).