هيا بنـا نؤمن ساعة

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل

يُحكى أن رجلًا كان يحاسب نفسه؛ فحسب يومًا سِنِي عمره فوجدها ستين سنة، فحسب أيامها فوجدها واحدًا وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.

فصرخ صرخةً، وخَرَّ مغشيًّا عليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه! أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!

يقول هذا لو كان يقترف ذنبًا واحدًا في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تُحصى؟!

ثم قال: آهٍ عليَّ، عَمَّرت دُنْيَاي، وخرَّبت أُخْرَاي، وعَصَيْت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:

منازل دنياك شيَّدتها

وخرَّبت دارك في الآخرة

فأصبحت تكرهها للخراب وترغب في دارك العامرة[1]

وفي الحديث: اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك[2].

واعلم -أخي الحبيب- أن لك موضعين تندم عندهما حيث لا ينفع الندم:

الأول: عند الاحتضار؛ حيث تريد مهلةً من الزمن لتُصلِح ما أفسدت، وتتدارك ما ضيعت، ولكن هيهات!

الثاني: عند الحساب؛ حيث تُوفى كل نفس ما كسبَت وهم لا يظلمون.

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي”[3].

وقال سعيد بن جبير: “إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة”[4].

أخي الحبيب:

إن الليل والنهار رأس مال المؤمن؛ ربحها الجنة، وخسرانها النار. والسنة شجرة: الشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها؛ فمَن كانت أنفاسه في طاعةٍ فثمرته شجرة طيبة، ومَن كانت أنفاسه في معصيةٍ فثمرته حنظل -والعياذ بالله-.

قال الحسن: “من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه؛ خذلانًا من الله -عز وجل-“[5].

وقال أبو حازم: “إن بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تُنفَق، فلا يُوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبقَ إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية”[6].

يا هذا، الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك.

إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقوالليالي متجر الإنسان والأيام سوق[7]

قال الحسن -رحمه الله-: “ما مرّ يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم، إني يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك؛ فقدِّم ما شئتَ تجده بين يديك، وأخِّر ما شئتَ فلن يعود أبدًا إليك”[8].

تؤمل في الدنيا طويلًا ولا تدريإذا جنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علةوكم من مريض عاش دهرًا إلى دهر[9]

وقال أبو نصر آبادي: “مراعاة الأوقات من علامات التيقظ”[10].

وقال مورق العجلي: “يا ابن آدم، تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن، وتطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك”[11].

وقال الحسن: “لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال. هيهات! قد صبّحا نوحًا وعادًا وثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فأصبحوا قد أقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم. وأصبح الليل والنهار غَضَّين جديدين لم يبلهما ما مرَّا به، مستعدين لما بقي بمثل ما أصاب به مَن مضى”[12].

لقد كان السلف الصالح مشغولين دائمًا بالآخرة، منتبهين لقيمة الوقت.

قال ابن مهدي: “كنا مع سفيان الثوري جلوسًا بمكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله”[13].

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: “إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل”[14].

أخي الحبيب:

ينبغي أن تذكِّر نفسك دائمًا بهذا السؤال: لماذا خُلقنا؟ ويجيب رب العزة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

ثم تأمل قول أبي الدرداء -رضي الله عنه-: “لولا ثلاث ما أحببت البقاء ساعة: ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر”[15].

وانظر أخي الكريم إلى وصية النبي ﷺ التي حكاها ابن عمر -رضي الله عنهما-: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل[16].

المصدر: دار ابن خزيمة

  1. العاقبة في ذكر الموت، لابن الخراط (ص: 31).
  2. رواه النسائي في السنن الكبرى، كتاب المواعظ، برقم (11832). وصححه الألباني في الجامع الصغير، برقم (1957).
  3. مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار، للسلمان (1/ 221).
  4. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصفهاني (4/ 276).
  5. جامع العلوم والحكم، لابن رجب (ص: 116).
  6. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، لابن رجب (2/ 390).
  7. الزهد الكبير، للبيهقي (ص: 298).
  8. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، لابن رجب (2/ 383).
  9. فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، لمحمد عويضة (1/ 101).
  10. طبقات الأولياء، لابن الملقن (ص: 27).
  11. أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 116).
  12. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، لابن رجب (2/ 383).
  13. سير أعلام النبلاء، للذهبي (7/ 243).
  14. رواه البخاري (8/ 89).
  15. سير أعلام النبلاء، للذهبي (2/ 349).
  16. رواه البخاري (6416).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى