هيا بنـا نؤمن ساعة

قف واعتبر

مكتب الدعوة والإرشاد بالسلي

إن الموت حقيقة قاسية رهيبة تواجه كل حي فلا يملك لها ردًّا، وهي تتكرر في كل لحظة ويواجهها الجميع دون استثناء؛ قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]. إن نهاية الحياة واحدة، فالجميع سيموت، لكن المصير بعد ذلك يختلف، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]. وفي الموت عظة وتذكير وتنبيه وتحذير، وكفى به من نذير؛ قال ﷺ: كفى بالموت واعظًا[1]. والموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طَعْمُها أكره وأبشع، وأنه الحادث الأهدم لِلَّذَّات، والأقطع للراحات والأمنيات.

ولكننا -مع الأسف الشديد- نسيناه، أو تناسيناه، وكرهنا ذكره ولُقياه، مع يقيننا أنه -لا محالة- واقع وحاصل. والعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه؛ كيف يطيب عيشه؟! وكيف لا يستعد له؟! إن المنهمك في الدنيا، المُكَب على غرورها، المُحِب لشهواتها؛ يغفل قلبه -لا محالة- عن ذكر الموت، وإذا ذُكّر به كرهه ونفر منه، ومَن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له؛ فاجأه في غَدِه، وهو في غفلة من أمره وفي شغل عنه.

قال مالك بن ينار: “لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غدًا؛ ما لذوا بعيش أبدًا”[2].

وما خاف مؤمنٌ اليوم إلا أَمِنَ غدًا بحُسن اتعاظه وصلاح عمله، ولكنَّ كثيرًا من الناس -مع الأسف الشديد- يضيع عمره في غير ما خُلِق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]، ولماذا ترجع وتعود؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100]؛ فأين أنت من هذا اليوم أيها الغافل؟! ألَا تعمل وأنت في سعة من أمرك، وصحة في بدنك، ولم يدنُ منك ملك الموت بعد؟!

إن ما نراه في المقابر أعظم وأكبر مُعتبَر؛ فحامل الجنازة اليوم محمول غدًا، ومَن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيُرجع عنه غدًا، ويُترك وحيدًا فريدًا في قبره، مرتهنًا بعمله، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرّ.

وحيدًا فريدًا في التراب وإنماقرين الفتى في القبر ما كان يعمل[3]

ولكن ما أقل من اتعظ، وما أنْدر من اجتهد، ولكنْ مَنْ قَصُر أملُه، وجعل الموت أمام ناظريه؛ عمل بلا شك للآخرة، واستفاد من كل لحظة من لحظات عمره في طاعة ربه، وتحسَّر على كل وقت أضاعه بدون عمل صالح يقربه إلى الله، وهو لِمَا قدَّم من عملٍ فَرِحٌ مسرورٌ بالانتقال إلى الدار الآخرة؛ وهذا هو المغبوط حقًّا.

قال لقمان لابنه: “يا بني، أمرٌ لا تدري متى يلقاك؛ استعد له قبل أن يفجأك”[4].

وقال بعض السلف: “اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها؛ لكان جديرًا بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيق بأن يطول فكره، ويعظم له استعداده؛ كيف ونحن نعلم أن وراء الموت القبرَ وظُلمتَه، والصراطَ وَدِقَّتَه، والحسابَ وشِدَّتَه؛ أهوالٌ وأهوالٌ لا يعلم عِظَمها إلا بالله”[5].

للموت فاعمل بجد أيها الرجلواعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعبتمسي وتصبح في اللذات مشتغل
اعمل لنفسك يا مسكين في مهلما دام ينفعك التذكار والعمل[6]

القبر

القبر هو أول منازل الآخرة؛ فكيف بنا أهمَلْنا بنيانه، وقوضنا أركانه؟! وليس بيننا وبين الانتقال إليه إلا أن يقال: فلان مات. قال ﷺ: ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه[7]، وقال ﷺ: القبر أول منازل الآخرة، فمَن نجا منه فما بعده أيسر منه، ومَن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه[8].

فارقت موضع مرقدي يومًا ففارقني السكونالقبر أول ليلة بالله قل لي فيه ما يكون[9]

نظرة واحدة بعين البصيرة في هذا القبر ستعطيك -والله- حقيقة هذه الدنيا؛ فبعد العزة، وبعد الأموال، وبعد الأوامر والنواهي، وبعد الخدم والحشم، وبعد القصور والدور؛ أهذه هي نهاية ابن آدم في هذه الحفرة الضيقة المظلمة؟!

تالله لو عاش الفتى في عمرهألفًا من الأعوام مالك أمره
متلذذًا فيها بكل نعيم

متنعمًا فيها بنُعمى عصره

ما كان ذلك كله في أن يفيبمبيت أول ليلة في قبره[10]

المصدر: موقع كلمات.

  1. رواه مالك في الموطأ (266)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4185).
  2. صفة الصفوة، لابن الجوزي (2/ 212).
  3. المصدر السابق (2/ 401).
  4. إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 461).
  5. المصدر السابق.
  6. بستان الواعظين ورياض السامعين، لابن الجوزي (ص: 153).
  7. رواه ابن ماجه في سننه (4268)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5618).
  8. رواه أحمد في مسنده (454)، وقال محققه: إسناده صحيح.
  9. فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، لمحمد عويضة (2/ 211).
  10. المصدر السابق.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى