ليلة القدر ليلةٌ قدرُها جليل، وليس لها مثيل، ويضاعف الله فيها العمل القليل، فهي هبةٌ عظيمة، ومنةٌ كبيرة، اختصَّ الله بها هذه الأمة؛ وفيما يلي نُجمل شيئًا من فضائل هذه الليلة العظيمة:
أولًا: أنَّ الله شرَّفها بنزول القرآن فيها:
ذلك أنَّ القرآن قد نزل جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أُنزل بعد ذلك إلى الأرض منجَّمًا ومفرَّقًا بحسب الوقائع والحوادث؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “أُنزل القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنةً”[1].
ثانيًا: جعل الله -عز وجل- أجرَ العمل فيها خيرًا من ألف شهر:
قال مجاهد في قوله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ “أي: عملُها وصيامُها وقيامُها خيرٌ من ألف شهر”[2].
وذلك منَّة من الله وفضل على هذه الأمة، لقِصَر أعمارها مقارنةً بأعمار الأمم السابقة؛ فقد رُوي: “أنَّ النبي ﷺ ذكر يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، فعجب أصحاب رسول الله ﷺ من ذلك! فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبتْ أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين؛ فقد أنزل الله خيرًا من ذلك فقرأ عليه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هذا أفضل مما عجبتَ أنت وأمّتك، قال: فسُرَّ بذلك رسول الله ﷺ والناس معه”[3].
ورُوي عن مجاهد قال: “كان في بني إسرائيل رجلٌ يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يُمْسِي، ففعل ذلك ألف شهر؛ فأنزل الله هذه الآية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي: قيام تلك الليلة خيرٌ من عمل ذلك الرجل”[4].
ثالثًا: مَن قام هذه الليلة إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه:
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه[5].
رابعًا: أَخْبَرَ النبي ﷺ أن مَن حُرِم خير هذه الليلة فقد حُرِم:
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “لما حَضرَ رمضانُ قال رسول الله ﷺ: قد جاءكم شهر رمضان، شهرٌ مباركٌ، افترض اللهُ عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرِم خيرها فقد حُرم“[6].
خامسًا: أنَّ هذه الليلة تُنزّل فيها الملائكة وتُقدّر فيها الآجال والأرزاق:
يقول مجاهد: “يُقضَى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يُقَدَّمُ ما يشاء ويُؤخَّر ما يشاء، فأمَّا كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يُغيَّر”[7].
وعن ربيعة بن كلثوم قال: “كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنَّها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفْرَق فيها كلُّ أمرٍ حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها”[8].
سادسًا: أخبر الله سبحانه أنها ليلة سالمة من الشيطان ومن كلِّ شرٍّ:
يقول ابن جرير في قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر:5] “أي: سلامُ ليلة القدر من الشرّ كلّه من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها”[9].
وقد رُوي عن مجاهد في قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر:5] قال: “هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى”[10].
الحكمة من إخفاء ليلة القدر:
ومن حكمة الله -عز وجل- أن أخفى ليلة القدر كما أخفى الأعمار والآجال والأرزاق؛ وذلك ليجتهد المسلم في العبادة والطاعة في جميع ليالي العشر، بخلاف ما لو عُيّنت لها ليلة لخصّها الناسُ بالعبادة ولتكاسلوا عن سائر الليالي، ومع ذلك قد يخصُّ الله بعض عباده برؤية علامتها، أو الشعور بسكينتها وبركاتها؛ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها أو يرى مَن يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر”[11].
المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- تفسير ابن كثير (1/ 17).
- تفسير الطبري (24/ 533).
- تفسير ابن كثير (8/ 443).
- تفسير الطبري (24/ 533).
- رواه البخاري (1901)، ومسلم (760).
- رواه أحمد في مسنده (7148)، وقال محققه: صحيح.
- تفسير الطبري (16/ 480).
- تفسير الطبري (22/ 8).
- المصدر السابق (24/ 534).
- تفسير ابن كثير (8/ 444).
- مجموع الفتاوى، لابن تيمية (25/ 286).