سر القرآن هو العمل به
إن تأثير هذا القرآن في النفوس إنما يحصل بالمعاني التي تستقر في القلب، فتملأه نوراً، ثم ينتقل هذا النور إلى باقي الجوارح، ولما فتح الله تعالى بهذا القرآن قلوب وعقول الصحابة، فتحوا به الدنيا، فمن أراد أن يعرف سر القرآن، فليستعن بالله، وليجتهد في الفهم والعمل، وهذه بعض وصايا سلفنا الصالح في هذا الشأن:
– هذا رجل جاء إلى أبي الدرداء وقال له: “إن ابني قد جمع القرآن، فانزعج أبو الدرداء وقال له: اللهم اغفر، إنما جمع القرآن من سَمِعَ له وأطاع”.
– وكان ابن مسعود يقول: “أُنْزِل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا تلاوته عملاً، فإنَّ أحدهم ليتلوا القرآن مِنْ فاتحتِه إلى خاتمتِه، ما يسقط منه حرفا، وقد أسقط العمل به”.
– وقال عمر بن الخطاب : “لا يغرَّنَّكُم مَنْ قرأ القرآن، إنما هو كلام يُتكلَّم بِه، ولكن انظروا لمن يعمل به”.
– وقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في العمل بالقرآن، والاستجابة لأوامره، والوقوف عند حدوده:
1 – كان أبو بكر الصديق ينفق على مِسْطح بن أَثَاثَة ؛ لقرابته منه، وبسبب فقره، فلما قال: مِسْطح عن السيدة عائشة رضي الله عنها ما قال في حادثة الإفك، قال أبو بكر: “والله لا أُنْفِق على مِسْطح شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة، فأنزل الله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النور:22]، فقال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر لي، فرجع إلى النفقة، وقال: والله لا أَنْزِعْها أبداً”.
2 – يدخل الحُر بن قيس وعمُّه عُيَيْنَة بن حِصْن على عمر بن الخطاب فيقول عُيَيْنة: هيَّ يا ابن الخطاب، فوالله ما تُعطينا الجَزْل، ولا تحكم فِينا بالعَدْل، فغَضب عُمَرُ حتى همَّ به، فقال له الحُر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإنَّ هذا مِن الجاهلين.
قال ابن عباس : والله ما جاوزها عُمَرُ حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله”.
3 – قال أنس بن مالك : لما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
قال ثابت بن قيس : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله ﷺ، وأنا مِنْ أهل النار، حَبَط عملي، وجلس في بيته حزيناً، ففقده رسول الله ﷺ، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تَفَقَّدك رسول الله ﷺ مَالَكْ؟ قال: أنا الذي أَرفعٌ صوتي فوق صوت النبي ﷺ، وأَجْهَرٌ له بالقول، حَبَط عملي، وأنا من أهل النار، فَأَتَوا النبي ﷺ فأخبروه بما قال، فقال النبي ﷺ: لا، بل هو مِن أهل الجنة.
4 – عن مِعْقَل بن يَسار قال: زَوَّجت أختاً لي من رَجُلٍ فطلَّقها، حتى إذا نقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زَوَّجتُك وأَفْرشْتُك وأَكْرمْتُك، فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:231] فسمع ذلك مِعْقَل فقال: “سمعاً لربي وطاعة، فدعا زوجها فَزوَّجها إياه”.
5 – عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ أَمْلَى: لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه، فجاء ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله، والله لو استطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، أي: أصبحت، لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:95].
المصدر: كتاب: أول مرة أتدبر القرآن، لعادل محمد خليل (ص: 349).