الروح سماوية علوية، والجسد أرضى سفلي، وعند موت الإنسان كل يتجه إلى أصله، فالروح إلى السماء، والجسد إلى الأرض، ومن الناس من همته في الثرى، ومنهم من همته في الثريا، فمنهم من يسعى لحياة الروح، ومنهم من يسعى لحياة الجسد، وحياة الروح باتصالها بالسماء بالخوف، والخشية، والمراقبة، والإخلاص لله -جل وعلا-.
والروح والجسد لا غنى لأحدهما عن الآخر، إلا إذا أصبح الجسد لا هم له إلا شهوته، وهواه، وفيه قول الرسول ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ومن الناس من نسى روحه، وغفل عنها، وعن حقوقها، فعبدها لجسده، وشهواته؛ فأصبحت حياته همومًا، وغمومًا، وأكدارًا، وأحزانًا، ليس له هم إلا أن يرضى هواه.
مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها، وما ذاقوا أطيب ما فيها، وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان، ولذة الطاعة، فالإنسان جسد، وروح، وشهوة، وعقل، والجسد تتبع له شهوة، والروح تتبع لها العقل، والصراع دائم بين الفريقين؛ الجسد، والشهوة معًا، والروح والعقل معًا، ومتى شبع البطن تحركت الشهوة، وإذا خلا البطن؛ هدأ السد، وانطلقت الروح تنمو، وتنشط، ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق، ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.
وهذه هي الروحانية العجيبة التي نحياها في رمضان، روحانية صائم؛ بذرها بالجوع، وسقاها بالدموع، وقواها بالركوع، وحسنها الخشوع، والخضوع.
روحانية صائم؛ فيها السعادة، واللذة، والأفراح، والأشواق، ما لا يبثه لسان، ولا يصفه بيان، روحانية صائم؛ فيها الأرواح تهتز، وترتاح، وتطير بغير جناح، فهي في أفراح، وأفراح.
روحانية الصائم؛ فيها من الحنين لجنات النعيم ما تورمت له أقدام المتهجدين، وبذل له الثمين، وسُمع له الأنين.
روحانية صائم؛ لا يعرفها العاشقون، ولا المتصوفة الواجدون، بل هي -والله- حكر على المحبين الصادقين، والمخلصين العارفين.
روحانية صائم؛ تخلصت من أسر الهوى، والشهوة، وحيل النفس، والشيطان.
المصدر: صيد الفوائد (بتصرف).