إن الله -عز وجل- وهو الرحيم بعباده، الكريم المتفضل عليهم قد شرع لهم من العبادات ما يكون فيه حياة قلوبهم، ونور أبصارهم، وهذه الحياة في القلب هي التقوى التي يعيش بها ذلك الملك الذي يأمر الأعضاء، فقال تعالى في حكمة فرض الصيام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] هذا الجوع، والعطش يا عباد الله ليس لله فيه حاجة: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [لحج: 37] فإن تعبت في نهار رمضان، أو عطشت فيه، وأصابك الجهد، فتفكر يا عبد الله في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك، من كسر حدة النفس، وسورتها، وتربيتها على الجوع، وتحمل العطش، ومقاومة انفعالات النفس، عندما تسيطر عليها، بعدما سيطرت عليك مرارًا، تفكر في نفسك عندما تغلبها، وقد غلبتك تكرارًا، وهذه التربية في الصيام في تحكم المسلم بنفسه تربية عظيمة، تسمو بها، وترتقي، وكذلك تقف عند حدها، فهذه الشهوة المضطرمة، وهذه الغريزة المستعرة، والتي تتأجج بفعل كثير من هذه المرئيات، إنها اليوم تحت السيطرة، فيمن رزقه الله تعالى الصيام حقيقة، فهو يتحكم في شهوته، ويتحكم في نفسه، وهو يقاوم إبليس، وأعوانه الذين يريدون إفساد هذا الصيام، إنه طريق -أي الصيام- عريق في البشرية.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] إنك عندما تصوم تتفكر في ذلك المعشر الكريم من البشرية في سيرها إلى الله عبر القرون، والأجيال، وهي لا تخلو من وجود أمة قائمة لله، صائمة، قانتة، عابدة، فيتصل معك الحبل بالحبل، والعبادة بالعبادة، عبادة الأولين بالآخرين، أولئك الكرام الذين سبقوا، فصاموا: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة: 183].
إنها مدرسة التقوى التي يتخرج منها المسلم، وهو أقرب إلى الله، يتلو كتابه في هذا النهار، ويقوم به في هذه الليالي، عبادة في إثر عبادة، تنوع بين فعل، وترك، تترك المطعومات، والمشروبات، والنكاح، وفعل في صلاة، وذكر، ودعاء، وتلاوة، إنه القرب من الله بأنواع العبادة.
المصدر: الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ محمد صالح المنجد