هيا بنـا نؤمن ساعة

رمضان، والتقوى الإيجابية

د. خالد راتب

إن بداية نزول القرآن في رمضان كان مقصدًا أساسيًّا، واختيارًا من لدن عليم حكيم؛ كي تجتمع بركة القرآن كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] مع بركة الزمان “رمضان” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [ الدخان: 3]، ليكون ذلك بركة، وخير لخير أمة أخرجت للناس، الذين يبحثون عن آفاق مستقبلية جديدة، فالعالم قبل نزول القرآن والرسالة المحمدية العالمية كان في حالة شلل عقدي، وفكري، وأخلاقي، فجاء رمضان بما يحتويه من مادة إيمانية، وأخلاقية، فأحدث في الكون كله تغييرًا جذريًّا.

ولا تستطيع الأمة -ولن تستطيع- أن تستفيد من رمضان، وتتخذه نقطة انطلاق للتغيير الحقيقي إلا إذا حققنا فيه المقصد الأسمى من الصيام، وهو التقوى، فالمقصد الأساسي للعبادات كلها: تحقيق التقوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] وكان صيام شهر رمضان من أجل العبادات التي تحقق التقوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].

والتقوى لا كما يظن بعض الناس أنها تعني المنع، والحرمان عن شهوتي الفم والفرج لفترة محدودة من الزمن، فهي بخلاف ذلك، فهي تقوى إيجابية تتعلق بالقلب، والجوارح، والفكر، وبكل ما يحيط بالإنسان من كائنات.

فتقوى القلب: طهارته، وسلامته من كل شائبة تعكر صفاء التوحيد، فالعبد يقطع منازل السير إلى الله بقلبه، وهمته، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج: 37] وقال النبيﷺ: التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات[1].

وتقوى الجوارح: تكون بامتثال الأوامر: فأتوا منه ما استطعتم واجتناب النواهي: فانتهوا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم[2].

تقوى الاتقان في كل عمل يعمله الإنسان في حياته كلها، ولا يكون أحدنا قابعًا في محرابه، خاشعًا باكيًا، وفي الوقت نفسه مهملًا لعمله، فصاحب هذا السمت الباهت الذي يقصّر في أعماله ولا يتقنها لا يحبه الله؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملًا أن يتقنه كما ورد عن رسولنا ﷺ فرمضان ليس شهر يكسل فيه الناس، ويسهرون ليلًا، وينامون عن أعمالهم أو في أعمالهم بحجة الصيام.

وتقوى الفكر: أن تنظر بعين التأمل، والتدبر في آيات الله المسطورة، القرآن الكريم الذي حرك الصخر، وخشعت له الجبال الراسيات: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21].

المصدر: مجلة البيان (بتصرف).

  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله برقم (2564).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برقم (7288) ومسلم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر. برقم (1337).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى