انظر في صحائف أيامك التي خلت؛ ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟ واخلُ بنفسك وحاسبها حساب الشحيح؛ يقول ميمون بن مهران: “لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه”[1]، والرشيد مَن وقف مع نفسه وقفة حساب وعتاب؛ يصحح مسيرتها، ويتدارك زلتها، يتصفح في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه، واستبق بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن مثله في المستقبل؛ لأنه مسافر سفر مَن لا يعود؛ يقول ابن حبان: “أفضل ذوي العقول منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبة”[2].
وإن غياب محاسبة النفس نذير غرقِ العبد في هواه، وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب؛ قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَابًا [النبأ:27].
والاطلاع على عيب النفس ونقائصها ومثالبها يلجمها عن الغي والضلال، ومعرفة العبد نفسه وأن مآله إلى القبر يورثه تذلُّلًا وعبودية لله، فلا يُعجَب بعمله مهما عَظُم، ولا يحتقر ذنبًا مهما صَغُر؛ يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: “لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا”[3].
وإذا جالستَ الناس فكن واعظًا لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، ومَن صحح باطنه في المراقبة والإخلاص زيَّن الله ظاهره في المجاهدة والفلاح. والتعرف على حق الله وعظيم فضله ومَنِّه، وتذكُّر كثرة نعمه وآلائه؛ يطأطئ الرأس للجبار -جل وعلا-، ويدرك المرء معه تقصيره على شكر النعم، وأنه لا نجاة إلا الرجوع إليه، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر؛ يقول أهل العلم: “بداية المحاسبة أن تُقايِس بين نعمته -عز وجل- وجنايتك، فحينئذٍ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب”[4].
وتفقُّد عيوب النفس يزكيها ويطهرها؛ قال سبحانه: قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]؛ يقول مالك بن دينار: “رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم زمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب ربها، فكان لها قائدًا”[5].
وإن أضرَّ ما على المكلف إهمال النفس، وترك محاسبتها، والاسترسال خلف شهواتها حتى تهلك؛ وهذا حال أهل الغرور الذين يغمضون عيونهم عن المعاصي، ويتكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعة الذنوب والأُنس بها؛ والله تعالى يقول: يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [الانفطار:6]؛ يقول الحسن البصري -رحمه الله-: “إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه؛ يقول: ما أردت بكلمتي؟ يقول: ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ فلا تراه إلا يعاتبها، وإن الفاجر يمضي قُدُمًا فلا يعاتب نفسه”[6].
والمؤمن قوَّام على نفسه يحاسبها؛ قال -عز وجل-: إنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِّنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ [الأعراف:201]، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وشق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. فتوقَّ الوقوع في الزلة، فتركُ الذنب أيسر من طلب التوبة، وأنِّبْها على التقصير في الطاعات، فالأيام لا تدوم، ولا تعلم متى تكون عن الدنيا راحلًا، وخاطب نفسك: ماذا قدمت في عام أدبرَ؟ وماذا أعددت لعام أقبلَ؟ يقول الفاروق -رضي الله عنه-: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وَزِنُوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا”[7].
المصدر: دار القاسم
- محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا (ص: 25).
- روضة العقلاء، لابن حبان (ص: 19).
- تفسير ابن كثير (1/ 247).
- المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين، للشحود (2/ 214).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/ 79).
- الزهد، لأحمد بن حنبل (ص: 1616).
- الزهد، لأحمد بن حنبل (ص: 99).