حكم هجر القرآن
يختلف حُكْمُ هجر القرآن الكريم باختلاف نوعِ الهجر، وحالِ الهاجر، ولكن كما جاء عن ابن القيِّم[1] رحمه الله فإن “بعض الهجر أهون من بعض” [2].
وذَكَرَ الألوسي -رحمه الله- اختلافَ المفسِّرين في معنى الهجر المذكور في قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، وهل المراد بهجره: عدمُ الإيمان به وتركُه تكذيباً، بناءً على أنَّ الهَجر -بفتح الهاء- بمعنى التَّرك والإعراض، أو أنَّ الهجر: بمعنى الهَذَيان فيه واللَّغو من الهُجر بضم الهاء، أو أنَّ المراد بالهجر: تعطيلُ القرآن وعدمُ النَّظرِ فيه وتعاهِده. ثمَّ قال بعد ذلك: “والحقُّ: أنه متى كان هذا مُخِلاً باحترام القرآن كُرِه، بل حَرُم، وإلاَّ فلا”[3].
وجاء في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السُّعودية ما نصُّه: «والإنسان قد يهجر القرآن فلا يؤمن به ولا يسمعه ولا يُصغي إليه، وقد يؤمن به ولكن لا يتعلَّمه، وقد يتعلَّمه ولكن لا يتلوه، وقد يتلوه ولكن لا يتدبَّره، وقد يحصل التدبُّر ولكن لا يعمل به، فلا يُحِلَّ حلالَه ولا يُحرِّم حرامه، ولا يُحكِّمه ولا يتحاكم إليه، ولا يَستشفي به ممَّا فيه من أمراضٍ في قلبه وبدنه، فيحصل الهجر للقرآن من الشَّخص بقدر ما يحصل منه من الإعراض”[4].
وبناءً على ذلك: فإنْ كان هجر القرآن بترك الإيمان به، أو الإعراض عنه، وعدم التَّحاكم إليه بالكلِّية، أو اللَّغو فيه، فهذا كفر صُراح.
قال النَّووي رحمه الله: “أجمعت الأمَّة على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته. وأجمعوا على أنَّ مَنْ جحد منه حرفاً مُجْمَعاً عليه، أو زاد حرفاً لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر، وأجمعوا على أنَّ مَنْ استخفَّ بالقرآن أو بشيء منه، أو بالمصحف أو ألقاه في قاذورة، أو كذَّب بشيء مما جاء به من حُكمٍ أو خبر، أو نفى ما أثبته أو أثبت ما نفاه، أو شكَّ في شيء من ذلك، وهو به عالم كَفَر” [5].
وإنْ كان هجر القرآن بمعنى التَّرك المؤدِّي إلى النِّسيان بعد الحفظ، فقد ذكر ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- أنه من الكبائر، وقال بأنَّ ذلك هو ما ذهب إليه الرَّافعي وغيره، ونقل عن بعض العلماء أنَّ محلَّ كون نسيان القرآن كبيرة -عند مَنْ قال به- مشروطٌ بأن يكون عن تكاسل وتهاون، وهذا احترازٌ عمَّا لو اشتغل عن القرآن بمرضٍ مانعٍ من القراءة، وعدم التَّأثيم بالنِّسيان حينئذ واضح؛ لأنه مغلوبٌ عليه لا اختيار له فيه [6].
وأمَّا إنْ كان الهجر مُتعلِّقاً بعدم العمل به -مع الإيمان به، والإقرار بأنَّه كلام الله تعالى يجب اتِّباعه- فذلك معصية يتوقَّف كونها كبيرةً أو صغيرةً على نوع المخالفة ذاتها.
وأمَّا إنْ كان الهجر بمعنى ترك التِّلاوة، أو ترك التَّدبر، أو ترك الاستشفاء به -مع القدرة على ذلك- ولم يفعل، فهو مُؤاخَذٌ على فعله بحسب نوع تقصيره في ذلك، وإن لم يكن قادراً على ذلك فإنَّ الله تعالى لا يُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها وما آتاها، ويُستثنى في تلاوة القرآن فيما تصحُّ به صلاته كقراءة الفاتحة مثلاً، فإنَّها واجبة على كلِّ مسلم، ولا يجوز تركها بحال [7].
المصدر: موقع الألوكة، من خطبة بعنوان: (التحذير من هجر القرآن الكريم) لــ د. محمود بن أحمد الدوسري.
- ([2]) قال ابن القيِّم رحمه الله: “هَجْرُ القرآنِ أنواع: أحدها: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه. والثَّاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإنْ قرأه وآمن به. والثَّالث: هجر تحكيمه والتَّحاكم إليه في أصول الدِّين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأنَّ أدلَّته لا تفيد اليقين، وأنَّ أدلَّته لفظيةٌ لا تحصِّل العلم. والرَّابع: هجر تدبُّره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلِّم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتَّداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها؛ فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التَّداوي به. وكلُّ هذا داخلٌ في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وإنْ كان بعض الهَجْر أهون من بعض”. انظر: الفوائد (ص123-124)، بتصرف يسير.
- الفوائد (ص124).
- روح المعاني، للآلوسي (19/ 13-14).
- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 103-104)، من الفتوى رقم (8844).
- المجموع (2/ 193). وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 88).
- انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 257-258)؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 86).
- انظر: موسوعة نضرة النعيم (11/ 5692)؛ المُتْحَف في أحكام المصحف، د. صالح بن محمد الرشيد (ص746-750).