هيا بنـا نؤمن ساعة

حسن الظن بالله

ابن القيم

قال ابن القيم -رحمه الله-: “ولا ريب أن حُسن الظن بالله إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حَسَن الظن بربه أنه يجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسن الظن بربه. وهذا موجود في الشاهد؛ فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يُحسن الظن به، ولا يجامع وحشةَ الإساءةِ إحسانُ الظنِّ أبدًا، فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسنُ الناس ظنًّا بربه أطوعُهم له؛ كما قال الحسن البصري: إن المؤمن أحسنَ الظن بربه فأحسنَ العمل، وإن الفاجر أساءَ الظن بربه فأساءَ العمل”[1].

وكيف يكون محسن الظن بربه مَن هو شارد عنه، حالٌّ مرتحلٌ في مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه؟! وكيف يحسن الظن بربه مَن بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات له، وأساء الظن بما وَصف به نفسه ووصفه به رسولُه ﷺ، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟!

وكيف يُحسن الظن بربه مَن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب؟! وقد قال الله تعالى في حق مَن شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات -وهو السر من القول-: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم أَردَاكُم فَأَصبَحتُم مِنَ الخَاسِرِينَ [فصلت:23].

فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرًا مما يعلمون؛ كان هذا إساءةً لظنهم بربهم، فأرداهم ذلك الظن، وهذا شأن كل مَن جحد صفات كماله، ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، فإذا ظن هذا أنه يُدخله الجنة؛ كان هذا غرورًا وخداعًا من نفسه، وتسويلًا من الشيطان، لا إحسانَ ظنٍّ بربه.

فتأمل هذا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه مُلاقٍ اللهَ، وأن الله يسمع كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه، ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه، مضيع لأوامره، معطل لحقوقه، وهو مع هذا يُحسن الظن به!

وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني، وقد قال أبو سهل بن حنيف: “دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: لو رأيتما رسول الله ﷺ في مرض له، وكانت عنده ستة دنانير أو سبعة دنانير، فأمرني رسول الله ﷺ أن أفرقها، فشغلني وجعُ رسول الله ﷺ حتى عافاه الله، ثم سألني عنها: ما فعلتِ؟ أكنتِ فرَّقتِ الستة دنانير؟ فقلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعُك، قالت: فدعا بها فوضعها في كفه، فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟[2]، وفي لفظ ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده؟[3].

فبالله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم، فإن كان ينفعهم قولهم: حَسَّنَّا ظنونَنا بك، إنك لم تعذب ظالمًا ولا فاسقًا، فلْيَصنع العبد ما شاء، ولْيَرتكب كل ما نهاه الله عنه، ولْيُحسن ظنه بالله، فإن النار لا تمسه! فسبحان الله! ما يبلغ الغرور بالعبد، وقد قال إبراهيم لقومه: أَئِفكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ۝ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ [الصافات: 86- 87]؛ أي: ما ظنكم به أن يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟

ومَن تأمل هذا الموضع حق التأمل؛ عَلِم أن حُسن الظن بالله هو حُسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حُسن العمل حُسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبلها منه؛ فالذي حمله على حُسن العمل حُسنُ الظن، فكلما حَسُن ظنه بربه حَسُن عمله. وإلا فحُسن الظن مع اتباع الهوى عجز؛ كما في الترمذي والمسند من حديث شداد بن أوس عن النبي ﷺ قال: الكَيِّس مَن دان نفسه وعَمِل لِمَا بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني[4].

وبالجملة؛ فحُسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن.

المصدر: دار القاسم

  1. الجواب الكافي، لابن القيم (ص: 25).
  2. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (34371)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان (713).
  3. رواه السيوطي في جامع الأحاديث (20150).
  4. رواه أحمد في مسنده (17123)، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى