الذكر الحكيم

حال السلف مع القرآن في رمضان

سليمان بن عبدالكريم المفرج

لقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يجتهدون في قراءة القرآن لا سيما في رمضان؛ لأنهم يعلمون أن شهر رمضان هو شهر القرآن، كانوا يغلقون كتب العلم، ويتفرغون لهذا المنبع العظيم، يروون به عطش قلوبهم، قدوتهم في ذلك نبي الرحمة، فقد كان يدارسه جبريل القرآن في رمضان، وكان لأصحابه مثالًا يحتذى في قراءته، فهذا عثمان بن عفان يختم القرآن كل يوم مرة.

وكان بعضهم يختمه في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم كل سبع، وبعضهم كل عشر، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة[1]، ولأبي حنيفة نحوه [2]، وكان أحمد بن حنبل إمام أهل السنة يختم القرآن كل أسبوع [3]، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، ويختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: “رمضان هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام”[4].

قال ابن الحكيم: “كان مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف”[5]، وكان لا يتشاغل إلا بالقرآن، ويعتزل التدريس والفتيا والجلوس للناس ويقول: هذا شهر القرآن.

وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن[6].

وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس؛ نامت[7].

كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف، وجمع إليه أصحابه[8]، وكان بعضهم يختم في كل يوم وليلة ختمة، وبعضهم يختم في اليوم والليلة ثلاث ختمات[9]، فالله أكبر، كانوا يفتحون المصاحف، ويحلون ويرتحلون مع القرآن الكريم، كان لبيوتهم دوي كدوي النحل، تشع نورًا وتملأ سعادة، وكانوا يرتلونه ترتيلًا، ويقفون عند عجائبه، ويبكون من عظاته، ويفرحون بشاراته ويأمرون بأمره، وينتهون بنهيه.

فهذه حال السلف الصالح، يديمون تلاوة القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، إذًا فتلاوة القرآن مطلوبة في كل وقت، ولا سيما في هذا الشهر.

فهذه حال القوم، فمن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل: كثرة تلاوة القرآن واستماعه بتفكر وتدبر وتفهم.

قال خبّاب بن الأرت – رحمه الله- لرجل: “تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه”[10].

وقال ابن مسعود – رضي الله عنه- : “من أحب القرآن أحب الله ورسوله”[11]، فمن أحب شيئًا أكثر من ذكره، ولا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم، كما قال بعض السلف: “إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله؛ فانظر إلى قدر القرآن عندك”.

وكان بعضهم يكثر من تلاوة القرآن، ثم اشتغل عنه بغيره، فرأى في المنام قائلًا يقول له:

إن كنت تزعم حبيفلم جفوت كتابي؟
أما تأملت ما فيهوما فيه من لذيذ خطابي[12].

ولم يكونوا يقرؤونه ليقال: إنهم يقرؤونه، ولا يهذّونه هذّ الشعر كما الناس يفعلون، وإنما كانوا يتدبرون معانيه، ويتأثرون بألفاظه، فيحركون به قلوبهم، ويرسلون به مدامعهم، يتأملون عبره، ويعيشون أنداءه، ويسرحون طرف أفئدتهم في خمائله، ويطلقون أكف الحب في كنوزه.

المصدر: موقع كلمات.

  1. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصبهاني (9/ 134).
  2. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لابن رجب (ص: 171).
  3. المصدر السابق (1/ 497).
  4. المصدر السابق (ص: 171).
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر السابق.
  7. المصدر السابق.
  8. المصدر السابق.
  9. شرح صحيح البخاري، لابن بطال، (10/ 280).
  10. رواه البيهقي في شعب الإيمان (166).
  11. جامع العلوم والحكم، لابن عبدالبر (2/ 343).
  12. روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم (ص: 201).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى