الذكر الحكيم

السهر المجهول

في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة توقف السياق القرآني، ثم بدأت الآيات تلوِّح بذكر فريق حصد السعادة الأبدية، واستطاع الوصول إلى (جنات وعيون)، ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة بين مجاهل تلك الأهوال؟

إنه (السهر المجهول).

تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ۝ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:15- 17].

أرأيت، هل استحوذ عليك المشهد؟ لا عليك، شعورٌ طبيعي جداً، تأمل كيف كان سبب سعادتهم أن نومهم بالليل (قليل)!

إذن أين يذهب بقية ليلهم؟

إنه يذهب بالسهر مع الله جل وعلا، ذلك السهر المجهول.

ذكرٌ لله، وتضرعٌ وابتهالٌ بين يديه، وتعظيمٌ له سبحانه، وافتقارٌ أمام غناه المطلق جل وعلا، وركوعٌ وسجودٌ وقنوت، هذا غالب الليل، أما القليل منه فيذهب للنوم، القليل فقط بنص الآية: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ.

وفي سورة الزمر لما ذكر الله عدداً من الآيات الكونية عرض هذا السهر الإيماني بصيغة أخرى، لكن فيها من التشريف ما تتضعضع له النفوس، لقد جعل الله هذا السهر الإيماني أحد معايير (العلم)!

نعم، قيام الليل أحد معايير العلم بنص القرآن، وهذا أمر لا تستطيع بتاتاً أن تستوعبه العقول المادية والمستغربة، لأنها لم تتزك بعد بشكل تام، ولم تتخلص من رواسب الجاهلية الغربية.

لاحظ كيف دلت خاتمة الآية على التشريف العلمي لهذا السهر الإيماني، إذ يقول الله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

فلاحظ في هذه الخاتمة كيف جعل الله عدم القنوت آناء الليل مؤشراً على جهل صاحبه، وجعل القنوت آناء الليل مؤشراً على علم القانت.

وقد يقول قائل: لكن كثيراً ممن لا يقنت آناء الليل نرى بالمقاييس المادية المباشرة أن لديه علماً؟

فالجواب: أن القرآن اعتبر العلم بثمرته لا بآلته فقط، وثمرة العلم العبودية لله، فمن ضيع الثمرة لم تنفعه الآلة.

ثم لاحظ كيف وصفت الآيات تنوع العبادة: سَاجِدًا وَقَائِمًا.

بل وصفت الآية أحاسيس ومشاعر ذلك الساهر، فهو من جهة قد اعتراه الوجل من يوم الآخرة، ومن جهة أخرى قد دفعه رجاء رحمة الله: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، تمتزج هذه المشاعر الإيمانية طوال الليل البهيم بينما الناس حوله هاجعون.

وهذا الوصف لأحاسيس المتنسك آناء الليل توحي بالسكينة الداخلية التي يعيشها، والمعالي التي يفكر فيها، ولذة المناجاة التي يتذوقها.

هل ترى الله تعلى بعظمته وقدسيته سبحانه يصوِّر هذا المشهد الإيماني الليلي بلا رسالة يريد إيصالها لنا؟

أليس من الواضح أن الله يريدنا كذلك؟

يريدنا أن نكون قانتين آناء الليل ساجدين وقائمين نحذر الآخرة ونرجو رحمة ربنا؟

وتذكر أن الله جعل ذلك معياراً من معايير العلم، ألا يشوقنا هذا أن نكون في معيار الله من أهل العلم؟

وفي أواسط سورة السجد ذكر الله المؤشرات الظاهرة التي تدل على إيمان الباطن، حيث استفتحها بقوله: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا [السجدة:15] الآية، وفي ثنايا تلك المؤشرات صورت الآيات مشهد ذلك المؤمن الصادق، وهو في فراشه، تهاجمه ذكرى الآخرة، فلا يستطيع جنبه أن يسترخي للنوم، تأمل قول الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16].

أخي الغالي، يشهد الله وحده وأنا أعلم شدة هذا الاستشهاد أنني ما مررت بهذه الآية إلا أحسست بمقاريض الحرج تنهش أطرافي.

ما مررت بهذه الآية إلا تخيلت أولئك القوم الذين ترسم هذه الآية مشهدهم، وكأني أراهم منزعجين في فرشهم تتجافى بهم يتذكرون لقاء الله، ثم لم يطيقوا الأمر، وهبُّوا إلى مِيضأتهم، وتوجهوا للقبلة، وسبحوا في مناجاة مولاهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا.

صحيحٌ أن هناك آيات كثيرة صورت السهر الإيماني، لكن هذه الآية بخصوصها لها وقعٌ خاص، مجرد تخيل أولئك القوم وهم يتقلبون في فرشهم ثم يهبّون للانطراح بين يدي الله، في  تضرع يراوح بين الخوف من العقوبة على خطاياهم، والرجاء الذي يحدوهم لبحبوحة غفران الله، ثم مقارنة ذلك بأحوالنا وليلنا البئيس يجعل الأمر في غاية الحرج، إنهم قومٌ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا.

بل وتأمل في بلاغة القرآن كيف يجعل البيات قياماً كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64].

إنهم يبيتون، لكنهم يبيتون لربهم في سجود وقيام!

ومن ألطف مواضع السهر الإيماني أن الله جعله من أهم عناصر التأهيل الدعوي في بداية الطريق، الله لم يجعل أعظم السهر الإيماني في آخر الدعوة النبوية بعد استيفاء التدرج، كلا، بل جعله في أولها! فقال تعالى لنبيه في آياتٍ كادت تستغرق الليل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا [المزمل:1-2].

لاحظ معي أن النبي ﷺ في بداية الدعوة، ومع ذلك يقول له: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا ۝ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:2-4].

اللهم يا رب الليل البهيم، اجعلنا ممن تتجافى جنوبهم عن المضاجع ندعوك خوفاً وطمعا.

المصدر: من كتاب: رقائق القرآن، لإبراهيم السكران.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى