الذكر الحكيم

الترغيب في علو الهمة في القرآن الكريم

إن أيام رمضان أيامٌ مباركة تفتح فيها أبواب الجنان، وتغلق فيها أبواب النيران، وتصفد الشياطين، وفيه الصيام والقيام وتلاوة القرآن، فيه تشحذ الهمم وتعلو، ويقبل الناس فيه على تلاوة كتب الله سبحانه الذي به تحيا القلوب وتزكو،

أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِلِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قَوْلًا وَفِعْلَاوَ زَادَكَ فَاتِّخِذْهُ لِلْمَعَادِ
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَاتَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ الحَصَادِ

فالهمة العالية أيها الأفاضل طريق الوصول المعالي، قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: “اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته ولا ببدنه والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وقال: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، وقال النبي ﷺ: التقوى ههنا وأشار إلى صدره [أخرجه مسلم، برقم (2564)]، فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة، وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل، يوافق فيه الإسلام والإحسان” [الفوائد لابن القيم (ص: 141-142)].

والإسلام أخي المسلم: يحثُّ على هذا الخلق النبيل في آيات كثيرة من كتابه الكريم كقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ففي هذه الآية كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ندب الله عباده إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات، والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات” [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (2/117)]، وهو أمر من الله بالهمة العالية.

وقال الله : رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

فهؤلاء الرجال هم أصحاب الهمم العالية قال عنهم العلامة ابن سعدي رحمه الله: “ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ذات لذات، ولا تجارة ومكاسب، مشغلة عنه، لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ، وهذا يشمل كلَّ تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: وَلَا بَيْعٌ من باب عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه” [تيسير الكريم الرحمن، للسعدي (ص:569)].

وإن مما يجدر أن يتنافس فيه المتنافسون في شهر رمضان المبارك قراءة القرآن الكريم، وقيام الليل به، فهو شهر القرآن قال ربنا في كتابه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة : 185]، فهذا “الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة” [تيسير الكريم الرحمن (ص: 86)].

وقد كان النبي ﷺ عالي الهمة في طاعة ربه سبحانه قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما: “كان النبي ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي ﷺ القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة” [أخرجه البخاري، برقم (1902)، ومسلم، برقم (2308)]، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخلت العشر الأخيرة من رمضان شد المئزر وأحيا ليله وأيقظ أهله كما تقول عائشة رضي الله عنها [أخرجه البخاري، برقم (2024)، ومسلم، برقم (1174)].

فهذا رسول الله ﷺ قدوتنا ومعلمنا لنا أسوة حسنة قال الله سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، فطوبى ثم طوبى لمن جعله أسوة واقتداء به في رمضان وغيره، فأيام رمضان أيام قلائل تضاعف فيها الحسنات وتعظم الأجور فلتشحذ الهمم ونلزم أنفسنا الجد في العمل، فــ “علو الهمة خلق رفيع وغاية نبيلة، تعشقه النفوس الكريمة، وتهفو إليه الفطر القويمة، وعلو الهمة من الأسس الأخلاقية الفاضلة، وإليه يرجع مجموعة من الظواهر الخلقية، كالجد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، وكالطموح إلى المعالي” [الهمة العالية معوقاتها ومقوماتها، لمحمد الحمد (ص:81)].

فصاحب الهمة هدفه عظيم في شهر رمضان أن يغفر الله له ما سلف من الذنوب فقد أخبر النبي ﷺ بأن من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه [أخرجه البخاري، برقم (1901)، ومسلم، برقم (760)].

وفقنا الله وإياكم لطاعته ورضاه، وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا من النار، اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى