الذكر الحكيم

التدبر بين تباشير العودة وخطر الجرأة

الشيخ الدكتور عمر المقبل

من المبشرات التي تبعث على الفأل -وما أكثرها- في هذه الأمة: عودتها إلى التمسك بكتاب ربها عودةً تضيف إلى الاهتمام بالحفظ، والعنايةَ بمقصدٍ من أعظم مقاصد التنـزيل، ألا وهو تدبر القرآن، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29].

وليس المقام مقام حديثٍ عن فضل التدبر؛ فنصوص من الوحيين في ذلك كثيرة، ومتنوعة في الحض على التدبر، والنعي على المعرضين عنه، بل لو قال قائل: إن كل آية ختمت بالأمر بالتفكر، والتذكر، والعقل، والاعتبار -وهي بالمئات- هي من هذا الباب؛ لكان مصيبًا.

والمقصود أن هذه العودة المبشرة، ما لم تُضبط بضوابط تحوطها من الزلل؛ فإنه يخشى أن يقع بسببها خلل كبير، وجرأةٌ على كتاب الله تعالى، كما تُلحظ بوادره من كتابات بعض الصحفيين الذين تكلّموا فأغربوا، وأخطأوا، أو مِن بعض الناشئة الذين دفعهم حب التدبر للجرأة بطرح ما لديهم، خاصة مع تيسر ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي في “الفيسبوك” و”تويتر” وغيرها.

ولستُ هنا بصدد ذكر ضوابط ذلك، فالمقالة لا تحتمل هذا، لكن لعلي أشير إلى بعض المسائل المهمة التي يقصد منها التنبيه على رؤوس أقلام في هذا الموضوع الذي يحتمل ورقة مطولة، فأقول على وجه الاختصار:

أولًا: إن التدبر الصحيح فرعٌ عن فهم المعنى، إذ لا يمكن تصور تدبرٍ صحيح، منطلقًا من فهم خاطئ.

فلو أراد أن يستنبط معنى من قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف: 176] فلا بد أن يفهم معنى: تحمل عليه، فلو فَهم الحمل على أنه يَحمل على ظهره شيئًا؛ فهذا خطأٌ في فهم المعنى، فمن الضروري أن يخطئ في التدبر المبني على هذا الفهم، وإن فهم معنى الحمل أنه: طرد الكلب، أو الهجوم عليه، فهو فهم صحيح للمعنى، فيبقى النظر في تدبُّره، واستنباطه.

ثانيًا: آيات القرآن -من جهة وضوح معناها، وخفائها- ليست على درجة واحدة، فالقرآن من حيث وضوح معانيه، وخفائها قسمان:

الأول: واضح المعاني؛ من حيث انتفاء الغرابة عن مفرداته، كالآيات التي تقرر معاني التوحيد، واليوم الآخر، أو التي تبين أصول الإيمان، وأركان الإسلام، أو التي ترغّب في الأخلاق الفاضلة، وترهِّب من الأخلاق السيئة، ونحو ذلك، وقد يقع في أثناء ذلك مفردات غريبة تحتاج إلى بيان، والجُزْءَان الأخيران (عمّ، وتبارك) نموذج واضح لذلك.

القسم الثاني: -وهو الأقل- الآيات التي كثر فيها الغريب، وهي التي لا يمكن -لمن عرف خطورة القول على الله بغير علم- أن يتكلم بشيء مِن تدبرها، دون فهم معناها؛ إذ التدبر فرع عن فهم المعنى.

ثالثًا: أحظّ الناس نصيبًا من تدبر كلام الله تعالى هم أهل العلم[1] بالقرآن، فهمًا لدلالاته – بأنواعها الثلاث- وعلمًا بأحكام الشريعة، وعلمًا بالسيرة النبوية -التي هي الترجمة العملية للقرآن- وهكذا، من كان بالله، وأسمائه، وصفاته، ومن كان بسنة رسول الله ﷺ وسيرته أعلم؛ كان أكثر نصيبًا للإصابة، والتوفيق للتدبر، وهم -على تفاوت مراتبهم- ينهلون من معاني هذا الكتاب، ويغترفون من علومه على قدر ما آتاهم الله تعالى من العلم، والفهم فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا.

وأما العامة، فلا يُنْكَرُ أن لبعضهم وقفات قد لا يتفطن لها العلماء، لكن لا يعني هذا فتح الباب! بل يتوقف كلامهم عند الواضح البيّن المحكم.

وهم -أعني غير أهل العلم- يشاركون أهل العلم بعلم ما في القلب، الذي عناه الحسن البصري: بقوله: العلم علمان: علمٌ في القلب؛ فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان؛ فتلك حجة الله على خلقه.

ومراده بعلم ما في القلب: الفهم الإيماني القلبي الذي ينتج عن تأملِ قارئ القرآن لما يمرُّ به من آيات كريمة، يعرف معانيها، ويفهم دلالاتها، بحيث لا يحتاج معها أن يراجع التفاسير، فيتوقف عندها متأملًا؛ ليحرك بها قلبه، ويعرض نفسه، وعمله عليها، فإن كان من أهلها حمد الله، وإن لم يكن من أهلها حاسب نفسه، واستعتب.

ولعلي أذكر قصةً واقعية توضح المقصود، وهي: أن رجلًا عاميًا -في منطقتنا- حينما سمع الإمامَ يقرأ في سورة الأحزاب، قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ۝ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب: 7، 8] قام فزعًا بعد الصلاة يقول لجماعة المسجد: يا جماعة! خافوا الله! هؤلاء خيرة الرسل سيُسألون عن صدقهم، فماذا نقول نحن؟! فبكى، وأبكى -رحمه الله تعالى-.

رابعًا: من أحبّ أن يوفق للتدبر السليم؛ فعليه أن يُدمن النظر في كتاب الله، وأن يعتني بقراءة كلام أهل العلم المحققين في هذا الباب، وعلى رأسهم أصحاب محمد ﷺ وتلاميذهم؛ ففي تفاسيرهم إشارات بليغة، هي ثمرة تأمل، وصورة من صور التدبر.

ولهذا فإن مما يفرح به طالب العلمِ: تنوعُ عبارات السلف في تفسير الآية؛ لأنه يفتح بابًا للتدبر، ويمنح الفكر مزيدًا من النظر في معاني الآيات، ومن أمثلة ذلك: قول الحسن البصري في تفسير: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198] قال: “هم الذين لا يؤذون الذر” فإذا كانوا لا يؤذون الذر -على صغرها، وحقارتها- أتراهم يؤذون بني آدم؟! فضلًا عن إخوانهم المسلمين.

ختامًا: ليست هذه دعوة لإغلاق باب التدبر، بل هي دعوة لما دعا الله إليه؛ من تدبر كتابه، والتفكر في معانيه، ولكن في ضوء القواعد المرعية، حتى لا يقع المحذور، وهو القول على الله بغير علم؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بتحصيل الوسائل التي تعين على تحقيقه، وهي كثيرة، وقد كتب فيها بعضُ إخواننا من طلاب العلم[2] والله الموفق.

المصدر: موقع الشيخ عمر المقبل

  1. وهم العلماء، وطلبة العلم.
  2. ككتاب: (فن التدبر في القرآن الكريم) و(المراحل الثمان لطالب فهم القرآن)، وكلاهما لأخينا الشيخ عصام بن صالح العويد.

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى