الذكر الحكيم

أهل القرآن

د. أنور إبراهيم منصور

لقد غيَّر القرآن نفوسَ أتباعه، وأحدث فيها زلزالًا شديدًا، فطهَّرهم من أَدْران الجاهلية ومفاسدها، وزكَّاهم بآياته التي يقرؤونها على كل حالٍ: قائمين، وقاعدين، ومُسْتَلْقِين، ومُضطجعين، لا يَكَلُّون، ولا يَمَلُّون، حتى صار القرآن شغلهم الشاغل، يتلونه، ويتدبَّرونه، وانصرفتْ همَّتُهم مما كانوا مُشتغلين به من مفاسد الجاهلية إلى حفظه واستظهاره، وتنافسوا في هذا الميدان تنافُسًا نَقَشَه التاريخ على صحائفه بأحرفٍ من نورٍ.

وكيف لا والتَّفاضُل بينهم في الحياة والممات بما يحفظون من القرآن، فأحقُّ القوم بالصلاة أقرؤُهم للقرآن، فعن أبي مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله وأقدمهم قراءةً، فإن كانت قراءتُهم سواءً فَلْيَؤُمَّهم أقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فَلْيَؤُمَّهم أكبرهم سِنًّا[1].

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يَجمع بين الرجلين من قَتْلَى أُحُدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقول: أيُّهم أكثر أَخْذًا للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحْد، وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة، وأَمَرَ بِدَفْنِهم في دمائهم، ولم يُغَسَّلوا، ولم يُصَلَّ عليهم[2].

وكان قُرَّة عين المرأة أن يكون صَدَاقُها بعض سور القرآن؛ فعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني قد وهبتُ لك من نفسي. فقال رجلٌ: زَوِّجْنِيها. قال: قد زَوَّجْنَاكها بما معك من القرآن[3].

وكانوا يهجرون لَذَّةَ النوم في الليل للقيام بالقرآن، فَتَجَافَتْ جنوبهم عن مضاجعها بالقرآن يقرؤونه في صلواتهم، وقد امتَدَحَهم الله بذلك فقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16- 17].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُذْكِي فيهم هذه الرُّوح الإيمانية العالية، فَيَمُرُّ ببيوتهم وهم نائمون يُوقظهم إلى الاشتغال بالقرآن والصلاة.

روى البخاري بسنده عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَقَه وفاطمةَ بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال: أَلَا تُصَلِّيان؟ فقلتُ: يا رسول الله، أَنْفُسُنا بيد الله، فإذا شاء أن يَبْعَثَنا بَعَثَنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إليَّ شيئًا، ثم سمعتُه وهو مُوَلٍّ يضرب فَخِذَه وهو يقول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54][4].

ولولا ما عَلِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من عِظَم فَضْل الصلاة في الليل ما كان يُزْعِج ابنتَه وابنَ عمِّه في وقتٍ جَعَلَه الله لخَلْقه سَكَنًا، لكنَّه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدَّعَة والسُّكون؛ امتثالًا لقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ [طه:132].

قال ابن بطَّال: “فيه فضيلة صلاة الليل، وإيقاظ النَّائمين من الأهل والقرابة لذلك”[5].

بل كان من الصحابة مَن يقوم بالقرآن في ليلةٍ واحدةٍ حتى طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يَرْفُقَ بنفسه، فعن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: أَنْكَحَني أبي امرأةً ذات حَسَبٍ، فكان يتعاهد كَنَّتَهُ -بفتح الكاف وتشديد النون، وهي زَوْج الولد- فيسألها عن بَعْلِها، فتقول: نِعْمَ الرجلُ من رجُلٍ، لم يَطَأْ لنا فراشًا، ولم يُفَتِّش لنا كَنَفًا منذ أَتَيْنَاه. فلمَّا طال ذلك عليه ذَكَرَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي به، فلقيتُه بعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يومٍ. قال: وكيف تختم؟ قال: كل ليلةٍ. قال: صُمْ في كل شهرٍ ثلاثةً، واقرأ القرآن في كل شهرٍ، قال: قلتُ: أُطيق أكثر من ذلك. قال: صُمْ ثلاثة أيامٍ في الجمعة، قلتُ: أُطيق أكثر من ذلك. قال: أَفْطِرْ يومين، وصُم يومًا، قال: قلتُ: أُطيق أكثر من ذلك. قال: صُم أفضل الصوم، صوم داود؛ صيام يومٍ، وإفطار يومٍ، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرَّةً، فليتني قَبِلْتُ رُخصةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك أنِّي كَبِرْتُ وضَعُفْتُ. فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار؛ ليكون أخفَّ عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوَّى أفطر أيَّامًا وأَحْصَى، وصام مثلهنَّ؛ كراهية أن يترك شيئًا فارق النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه[6].

وكان من الصحابة مَن اهتدى إلى نور الإيمان بسبب سماعه لآي القرآن تُتْلَى على مسامعه، كما هو الحال مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع جُبَيْر بن مُطْعم رضي الله عنه، وغيرهما.

المصدر: شبكة الألوكة.

  1. رواه مسلم (673).
  2. رواه البخاري (1343).
  3. رواه البخاري (2310).
  4. رواه البخاري (1127)، ومسلم (775).
  5. “فتح الباري” لابن حجر (3/ 11).
  6. رواه البخاري (5052).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى