قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: “واعلم أن أعدى عدوٍّ لك نفسُك التي بين جنبيك، وقد خُلقَت أمارةً بالسوء، ميالةً إلى الشر، وقد أُمِرْتَ بتقويمها، وتزكيتها، وفطامها من مواردها، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها. فإن أهملتَها جمحَت وشردَت ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة؛ فلا تغفلنَّ من تذكيرها”[1].
واعلموا -عباد الله- أن محاسبة النفس أنواع:
قال ابن القيم -رحمه الله-: “ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.
فالنوع الأول -الذي هو قبل العمل-: هو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، قال الحسن -رحمه الله-: رحم الله عبدًا وقف عند همه؛ فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
النوع الثاني -الذي هو بعد العمل-: وهو ثلاثة أنواع:
- أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. ثم يحاسب نفسه: هل قام بطاعة الله على وجه يرضي الله تعالى أم قصر بذلك؟
- الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا من فعله.
- الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد، لِمَ فعله؟ وهل أراد به وجه الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به؟”[2].
ولمحاسبة النفس آثار ومنافع عظيمة؛ منها:
1- الاطلاع على عيوب النفس، ومَن لم يطلع على عيوب نفسه لم يُمْكنه إزالتها.
2- المحاسبة توجب للإنسان أن يمقت نفسه في جانب حق الله عليه، وهذه كانت حال سلف الأمة، كانوا يمقتون أنفسهم في مقابل حق الله عليهم؛ وقد رُوي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: “لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا”[3].
وقال محمد بن واسع محتقرًا نفسه -وهو من العُبَّاد-: “لو كان للذنوب ريحٌ؛ ما قدر أحد أن يجلس معي”[4].
قال ابن القيم -رحمه الله-: “ومقت النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من ربه تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل”[5].
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: “مَن مقت نفسه في ذات الله؛ أمَّنه الله من مقته”[6].
3- ومن ثمار محاسبة النفس: إعانتُها على المراقبة، ومعرفة أنه إذا اجتهد بذلك في مَحياه استراح في مماته، فإذا أخذ بزمامها اليوم وحاسبها؛ استراح غدًا من هول الحساب.
4- ومن ثمارها: أنها تفتح للإنسان باب الذل والانكسار لله، والخضوع له والافتقار إليه.
5- ومن أعلى ثمارها: الربحُ بدخول جنة الفردوس وسُكْناها، والنظر إلى وجه الرب الكريم سبحانه، وإن إهمالها يعرض للخسارة، ودخول النار، والحجب عن الله، ومُقاساة العذاب الأليم.
وترك محاسبة النفس وإهمالها، له أضرار عظيمة؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: “وأضر ما عليه: الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشِّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك؛ سهل عليه مواقعة الذنوب وأَنِس بها، وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد” [7].
إذا ما أطعت النفس في كل لذة | نسيت إلى غير الحجا والتكرم |
إذا ما أجبت النفس في كل دعوة | دعتك إلى الأمر القبيح المحرم[8] |
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم، فإن صلاح القلب وسلامته بمحاسبة النفس، وفساده وعطبه بإهمال النفس والاسترسال في ملذاتها وشهواتها، وإهمال ما به كمالها؛ فاحذروا ذلك تُعِزُّوا أنفسكم وتسعدوا عند لقاء ربكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: دار القاسم
- مختصر منهج القاصدين، لابن قدامة (ص: 377).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/ 82).
- المصدر السابق (1/ 84).
- سير أعلام النبلاء، للذهبي (6/ 120).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 87).
- محاسبة النفس، لابن أبي الدنيا (ص: 72).
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 83).
- ذم الهوى، لابن الجوزي (ص: 52).