الذكر الحكيم

أثر القرآن في تغيير الإنسان

مسعد عرفة

منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، وقبل أن يُنْعِم الله عزَّ وجلَّ على البشرية بأعظم نعمةٍ وهي: إنزال القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمُرسلين صلى الله عليه وسلم، ما كان العرب إلا شَرَاذِمَ مُتفرقةً، وقبائل مُتناحرةً، وبين عشيةٍ وضُحاها صاروا إخوةً مُتحابِّين، ورفاقًا مُتآلفين يَفْدِي بعضهم بعضًا بالغالي والثَّمين.

وقد نصَّ الله تعالى في القرآن على هذه النعمة فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].

كانوا يتقاتلون على الناقة والشاة، ثم ما لبثوا أن آثر بعضهم بعضًا على نفسه، ونزل فيهم قول الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

لم يكن لأحدهم ولاءٌ إلا لقبيلته التي ينصرها في الباطل قبل الحقِّ، ولم يكن في وسع أحدهم إلا الاستجابة لصراخ أخيه في القبيلة بلا برهانٍ ولا بينةٍ على قوله، كما قال الواصفُ لهم:

لا يسألون أخاهم حين يَنْدُبُهمفي النَّائبات على ما قال بُرهانًا[1]

ثم ما كان منهم بعد الإسلام إلا أن صار أحدهم ينصر الحقَّ ولو كان مع غير قبيلته؛ امتثالًا لأمر الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135].

وكانت العصبية القبلية دينهم، فإذا بهم يُجاهِد أحدُهم مع إخوانه في الإسلام ولو كانوا من غير قبيلته، بل ولو لم يكونوا من العرب بالأساس، فكان المسلم الأَوْسِي يُقاتل بجوار المسلم الخَزْرَجِي، وبجوار المسلم القُرَشي، وبجوار المسلم الحَبَشِي، وبجوار المسلم الرُّومي، وبجوار المسلم الفارسي، كلهم ذابوا في بَوْتَقَةٍ واحدةٍ، يُقاتلون وهم يدٌ واحدةٌ، حتى لو كان عدوهم هو قبيلة أحدهم.

وكانوا يتفاضلون فيما بينهم بالمال والجاه، وكثرة العدد والولد، وجمال الخِلْقَة، وقوة البدن، ثم أصبحت التقوى هي معيار التَّفضيل، والتي لا يعلمها إلا الله، بعد أن سمعوا كلام ربهم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

وكانوا ينتقصون النساء ويكرهون البنات، وحالهم في ذلك كما أخبر الله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58- 59]، ويحتقرونهنَّ، ولا يعتبرونهنَّ شيئًا، ثم أكرموهنَّ، وورَّثوهنَّ، وأعلوا قدرهنَّ، كيف لا وقد فرض الله لهنَّ نصيبًا في آيات المواريث: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7].

وكان سعي أحدهم وكَدُّه طول عمره في تحصيل أكبر قدرٍ من المال والإبل والغنم والعلوِّ في الأرض، ثم أصبح مُنتهى أمل أحدهم أن يُطْعَن في سبيل الله طعنةً تنقله إلى منازل الشهداء: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

وكان ليلهم مع شُرب الخمور، وتمايل الغانيات، وفعل المُنكرات! فصاروا لا يبيتون إلا وقد صَفُّوا أقدامهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ يُناجونه في جوف الليل، وقد تركوا الغانيات والخمور، وقد كانوا يُفرطون في حياتهم التي بين جنوبهم ولا يُفرطون فيها.

وكانوا لا يعتبرون العبيد شيئًا، وكان العبد أهون على سيده من شِرَاك نعله، ثم أصبح بعد الإسلام أخًا مُساويًا له في الحُرْمَة، بل قد يفوقه ويَعْلُوه إن كان أكثر منه في التقوى والإيمان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

والسؤال الآن: ما سبب كل هذه التَّغيرات والتَّحولات وغيرها مما يُحَيِّر الألباب؟

والإجابة على ذلك بشيءٍ واحدٍ: إنه أثر القرآن في تغيير الإنسان، هذا القرآن الذي أعاد بناء شخصياتهم وفقًا للمنهج الرباني.

ولا يُراد بذلك مجرد الحفظ والتَّرديد لآيات القرآن، وإنما القصد أن يكون القرآن منهج حياةٍ، وخطَّ سيرٍ لا يَحِيد عنه الإنسان.

تأملوا هذا المنهج الرباني التربوي الذي جاء تفصيله في حديث جُنْدُب بن عبدالله بن سفيان البَجَلِيِّ العَلَقِيِّ رضي الله عنه قال: “كنا فتيانًا حَزَاوِرَةً -جمع حَزَوَّر وهو الغلام الذي لم يبلغ وقد قارب- مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلَّمنا القرآن فَازْدَدْنَا به إيمانًا، وإنَّكم اليوم تَعَلَّمون القرآن قبل الإيمان”[2].

فتأمل قول الصحابي الجليل: “فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن”، وتدبر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمهم الإيمان قبل القرآن، فلما تعلموا القرآن ازدادوا به إيمانًا.

ثم هو رضي الله عنه يُوضح المنهج المُقابل فيقول: “وإنَّكم اليوم تَعَلَّمون القرآن قبل الإيمان”.

فَحَرِيٌّ بنا أن نجعل هذا الحديث مركزًا للمنهج التربوي الذي نأخذ به أنفسنا وأبناءنا وبناتنا وأهلينا.

ولِمَ لا؟ أليس هو المنهج الرباني والأسلوب النبوي في التربية الذي تكلم به مَن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم؟ وما فائدة أن يكون الإنسان قادرًا على ترديد القرآن كله من الفاتحة إلى سورة الناس، ولكنه في الواقع يسير عكس المنهج التربوي للقرآن تمامًا؟!

وحال النبي صلى الله عليه وسلم خير مثالٍ يُحْتَذَى به؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بالجانب العملي، ويُقدِّم الناحية التَّطبيقية، فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما سُئلتْ عن خُلُقِ النبي صلى الله عليه وسلم لم تجد سوى أن تقول: “فإنَّ خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن”[3].

المصدر: مركز تفسير للدراسات القرآنية.

  1. “عيون الأخبار” لابن قتيبة (1/ 285).
  2. رواه البيهقي في “شعب الإيمان” (51).
  3. رواه مسلم (746).

مواد ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى